ما بتربح تجارتنا

بدون زعل

عبد الحفيظ مريود

ما بتربح تجارتنا

لطالما تأملتُ، تخيّلتُ، وقفتُ – بكل ما تحمله الكلمة – على جرح أبو آمنة حامد وهو يغنّى:” قلبي غافر ليك ذنوبك.. سيبو بس تنشف جراحو”..الجابرىُّ خفيف على النّفس. بلا ادّعاءات مزعجة. لكنْ لماذا يغضبُ النّاسُ من شرق السُّودان، حين يستشيطُ غضباً؟ أين يتقاطعُ ذلك مع السكينة الوطنيّة المطلوبة؟ الجابرىُّ – أيضاً – من الشّرق. سيكونُ الشرقُ وطنيّاً – بالطّبع – حين يكتبُ (لنا) الحلنقىّ، محمّد عثمان كجراي، أبو آمنة حامد.. لكنّه سيكون “شرقاً غير مرغوب فيه” حين يستشيطُ غضباً. فالقاعدةُ الأولى في درس الوطنيّة: “اجلسْ هنا، حتّى نناديك”.

شايف كيف؟

سألتُ ذات يوم البروفسير أحمد الياس حسين، أحد أهمَّ أساطين التاريخ، والمعول الرئيس في تكسير المعبد السُّودانىّ، عن الآثار الكبيرة (نقوش ومنحوتات وغيرها)، لماذا ظلّتْ بعيدةً عن الإعلام، الدّراسات، والتنقيب؟ أجابني (ببساطة: لأنَّ الخواجة ما وجّه أكاديميينا بذلك.. يسيرون على الخطّ الذي يرسمه الخواجة). الخواجةُ ذاته هو الذي بنى مدينة بورتسودان. وجعلها الميناء الرئيس، في إطار رعاية مصالحه. ومصالحه تقتضي أنْ يتمَّ تخطيط المدينة كلونياليّاً، ويتمَّ استجلاب سكّان لها ليكونوا (سادتها). كينيث بيركينز في (بورتسودان: نشأة مدينة كلونياليّة)، الكتاب الذي حوى كلَّ شيء وقال ما يجب أنْ يُقال، وكتب أخرى وضعها “الخواجات”. لذلك ستجدُ أهل الشّرق في أطراف المدينة. قلّة، فقط، من خدمتها الظّروف.

في العام 1957م، بعد عام ونيف من استقلال السُّودان، في أكتوبر، ظهر (مؤتمر البجا)، كأوّل كيان إقليمىّ سياسىّ. الإجابة على السّؤال: ما هي دوافع مثقفي البجا ليؤسّسوا كياناً سياسيّا، بعد عام على الاستقلال، ليعبّر عن تطلّعاتهم؟ لماذا لم يجدوا أنفسهم في الدولة الوطنيّة الوليدة؟ ليست سهلةً، ولا يمكنُ القبول بها. ستتلقّى – وأنت تطرح مثل هذا السؤال – سيلاً من الاتّهامات، التخوين، والشتائم القشتاليّة المقذعة، كما قال ماركيز. سيكون ملائماً ومثاليّاً لو أنّك لم تطرحه، في هذا التوقيت، على الأقلّ، حتّى لا تزيد النّار حطباً، كما حدث في مسألة اقتحام التلفزيون في بورتسودان بسبب حادثة المذيعة زينب ايرا.

شايف كيف؟

متى يحينُ وقتُ السؤال؟ متى يكون الحديث عن العدالة الاجتماعيّة، التنمية المتوازنة، الشراكة الحقيقيّة في إدارة البلاد ملائماً؟ لأنّه – ثمّة دائماً – “ظروف تأريخيّة حرجة تمرُّ بها البلاد”، تجعل الوقت غير ملائم. تجعل النّاهضين إلى حقوقهم وحقوق أهليهم، مجرّد دعاة فتنة.. عملاء لآخرين وفي أحسن الأحوال يفتقرون إلى الحساسيّة الوطنيّة.

حسناً

هل يعمل الشّرق، مستنداً إلى ظرف الحرب، وهروب حكومة الأمر الواقع إلى بورتسودان، على ابتزاز الحكومة الهاربة إليه؟ يضغط عليها لينال ما لم يكن ليناله لو كانت الظروف عاديّة؟ جائز.

لكنَّ العقل الذي يدير البلاد، منذ فجر الاستقلال، ينظرُ إلى الشّرق مثلما ينظر الموظفون والعمّال إلى شبّاك الصرّاف. وذلك قبل أنْ يتمّ تطبيق دفع الرواتب الكترونيّاً. فشبّاك خزينة الصرّاف مكان شبه مقدّس. تنظر الحكومات إلى موانئ الشّرق كشبابيك للصّرف. تصدّر عبرها المنتجات، وتستقبل عبرها الواردات التي تعبرُ الشّرق إلى حيث النّخبة. لا تستطيع أنْ تتذكّر مشروعاً زراعيّاً قوميّاً واحداً في الشّرق.. ولا مصانع.. لا استثمارات أجنبيّة يجرى توطينها في الشّرق لينعم إنسانه بخيراتها.. لا شيء، تقريباً.

من الضروريّ، جدّاً، التنبيه إلى أنَّ بذر الشّقاق يتمُّ وفقاً لهندسة مركزيّة. لابدَّ من تحريك لاختلافات بين الهدندوة والبني عامر. بين البني عامر والنّوبة، بين الرّشايدة والحلفاويين، مثلا. لكنَّ الأبرز، الأوضح، ترسيخ أنَّ البنى عامر والحبَاب، قبيلتان إريتريتان. الرّشايدة مهاجرون. في مقابل “أصليين” هم قبائل الهدندوة. حين تضيق الأوضاع، علينا أنْ نشغل الشّرق بالتقسيمات الهلاميّة، هذه.. يفوز الهدندوة في مواجهة البني عامر والحباب، مثلاً. يجري تفجير صراعات وهميّة حتّى ينشغل الشّرق عن قضاياه.

الآن، ثمّة حرب وجوديّة تهدّد “كيان الدّولة”. حرب يخوضها “الدّعم السّريع مسنوداً بمرتزقة، وبدول معروفة”، وعلى الشّرق أنْ “يتحلّى بالمسؤولية، يتّحد (معنا)، لنواجه العدوّ المشترك.. ثمّ بعد أنْ نقضى عليه، يمكن أنْ نلتفت (لمعالجة) مشكلات الشّرق.

شايف كيف؟

الضّمير المربك (نحن)..إلى مَنْ يعودُ؟!

“عملنا ليكم”…”أديناكم”…”نعالج ليكم”…”نحن”..

بالطّبع السؤال غير جوهريّ. لماذا؟ لأنّه لا يقوم على أساس.. كيف ذلك؟ طالما هناك (نحن)، في مقابل (هم)، و(أنتم)، فمن الضّروري تعريف هذه الـ (نحن). على الأقل، عشان نقدر “نحارب” “معاكم”، وبعد الحرب ننتظر “تعالجوا” لينا مشاكلنا.. فالجملة – من حيث البناء – تجعلُ البقية (آخرين)..وهو أسُّ المشاكل من تمرّد جنوب السّودان 1955م، إلى حرب الدّعم السّريع، مروراً بحركات دارفور، جبال النّوبة، النّيل الأزرق، شرق السّودان…من مِنْ جهات السّودان الأربع لم “يتمرّد”، ولماذا؟

شايف كيف؟

المهم:

الرّهيف قلبو بيعيش في شكّو أكتر من يقينو

تستبيهو نظرة جارحة، وتحترق في الحُبْ سنينو

أو كما قال أبوآمنة حامد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى