Site icon صحيفة الصيحة

الحلنقي.. وتاجوج التي وُلِدَتْ من جديد

بدون زعل

عبد الحفيظ مريود

الحلنقي.. وتاجوج التي وُلِدَتْ من جديد

كنتُ مديراً للإدارة السياسيّة بتلفزيون السّودان، عام 2009م. كان ضمن تخطيطنا برنامج يعنى بالقضايا الدّوليّة. بالطبع يجرى التركيز على محيط السّودان العربىّ والإفريقىّ، لكنّه يتمدّد ليلامس القضايا الكبرى. كنّا نبحثُ عن مقدّم للبرامج. اقترح علىّ شخص أثق به مقدّما بمواصفات خاصّة. من أبناء كوستى، حاصل على الدكتوراة في العلاقات الدوليّة، وجه غير معروف، تلفزيونيّاً، درس في روسيا، على ما أذكر. اقترحته على مدير الإدارة العامّة للإخبار والشؤون السياسيّة، وافق، رفع المقترح “لقدّام”، فوافقت الإدارة العليا. قمنا بالاختبارات الأوليّة.. هناك ملاحظات طفيفة، لا تسبب مشكلة. تمَّ تسجيل الحلقة الأولى، الثانية، وبثّها، وننتظر تطوّره (داون ذا ريفر)، كما يقولون في المجال. نقل إلىّ مدير الإدارة العامّة ملاحظات وتوصيات المدير العام (قال ليك النّاس ديل ما تكتّر منّهم)..تقصّيتُ: الدكتور مقدّم البرامج الذي هو من كوستي، ينتمى إلى قبيلة المسيريّة. المقصود بـ “النّاس” الذين يجب ألّا “أكثر منهم” هم (الجماعة ديلك).

شايف كيف؟

لم يستمر الدّكتور محمد شرف الدّين في تقديم البرنامج التلفزيونىّ. كان ثمّة عقبات مستمرّة. فآثر أنْ ينسحب. بقينا أصدقاء فيسبوكيّاً. لكن – يعلم الله – لم أكنْ أعرفه، قبلها، ولا سألته عن قبيلة، ولم ولن تكون حاضرة في يوم من الأيّام، لتحدّد علاقتي بالبني آدم…

لاحقاً، 2020م، وأنا مدير للبرامج بقناة سودانيّة 24، اقترح علىَّ زميلنا وصديقنا المخرج الدكتور حاتم بابكر، شابّا واعداً، له مستقبل في مجال الأخبار. كان عندنا نقص في هذا الاتّجاه، اسمه ياسين سعد. أرسله إلىّ، طلبتُ إجراء الاختبارات، وتقييمه..النتيجة كانت ايجابيّة جدّاً، فالشابّ يتمتّع بقدرات محترمة..رفعت طلب تعيينه فتمّت الموافقة عليه…لاحقاً، في أثناء سجال ومكايد داخليّة، تسرّب إلى المواقع الاخباريّة والصّحف، بأنَّ مدير البرامج بسودانيّة “عنصرىّ”، يستقطب “ناس الغرب”..اتضح أنَّ المذيع الجديد من الأبيّض.

شايف كيف؟

“إنَّ مثل هذه التصرّفات، تضع القُطْرَ – دائما – في مشاكل مع نفسه”…العبارة أوردها مولانا أبيل ألير، السياسىّ الجنوبىّ البارز، والقاضي الشهير، في كتابه (التمادي في نقض العهود والمواثيق)، ترجمة بشير محمد سعيد، وهو يورد حوادث مشابهة، جرتْ، وتجري، على صُعُدٍ متعدّدة، على وجه الحياة السّودانيّة، تنفجر، ولو بعد مائة عام، معبّرةً عن نفسها، بشكلٍ عنيف، دموىّ، مدمّر.

شايف؟

هل كان يعرف البزعىّ مدير الهيئة للإذاعة والتلفزيون إنَّ “ملاحظاته” العارضة على زي الفتاة البجاويّة، ستحوز على ردّة الفعل، هذه؟

بالطّبع، لا.

لكنَّ البُزَعىّ، يتقمّصُ شخصاً وهميّاً، اسمه (السّودان). ذاك الذي يظلُّ متخَيّلاً، متوهّماً، في ملكوتٍ هلامىّ، يتوجّبُ تقديم القرابين له، والتوافق معه، لئلا يغضب منّا. صنيعةً لجماع مرضىّ، وعاهةٍ أبديّة، تنخر في جسد الوطن.

فالبّزعىّ يعرفُ انَّ (أوجه العرض)، وإدارة الهويّة، في الهيئة لا تشترطُ زيّاً معيّناً للظهور على الشاشة، إلّا أنْ يكون سفوراً، أو قبحاً بيّنا. وإنَّ جميع الأزياء السّودانيّة، التي لا تتقاطع مع (الأعراف والتقاليد)، هي أزياء مقبولة. ذلك على المستوىّ النّظرىّ، المكتوب. بمثلما لا تشترط في الظهور على الشاشة أنْ يكون شكلك أو لونك، بمواصفات معيّنة. غير أنَّ الاتّفاقات – غير المكتوبة، غير المعلنة – قد تجازف بتمرير ” هويّة داخليّة”، هي التي يتوجّب عليها أنْ تسود، على الشاشات السّودانيّة، زيّاً، شكلاً ولوناً.

التلفزيون الذي أنجب عوض ابراهيم عوض، محمد سليمان ضو البيت، عمر الجزلىّ، الصبّاغ، إسحق عثمان وغيرهم. لم يكن مريضاً إلى هذه الدّرجة. بل إلى عهدٍ قريب، ثلاثين عاماً فأقلَّ، كان يسعى سعياً حثيثاً ليكون عنواناً للسودان، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ثمّة قصّة لطيفة وغايةً في الجمال استدرج بها الجنرال حسن فضل المولى، مدير البرامج الأسبق، المذيع عادل فارس، والأبواب التي فتحها له، ليكون عادل فارس أحد ألمع نجوم التلفزيون في السّودان وجنوب السّودان.

لكنَّ ذلك لا ينفى أنْ يتسرّب المرضى والمعتوهين ليضعوا (القُطْرَ في مشاكل مع نفسه)، كما قال أبيل ألير. معاتيه يفترضون أنَّ (السّودانىّ) يجب أنْ يكون (أنا). أو – في أحسن الأحوال – يجب أنْ يكون مطابقاً للشروط المتوهّمَة، نعتسف في تكييف (الآخرين) ليتطابقوا معها.

شايف كيف؟

حادثة البجا في مباني التلفزيون ببورتسودان، والمطالبة بإقالة وتعيين، ليست معزولةً. ولن تكون الأخيرة في سلسلة صراع الهوّيّات الضيّقة مع الهويّة الجامعة.. أو صراع الهوّيّات الضيّقة مع بعضها البعض في إطار السّعي لبلورة (هويّة جامعة). وقد سبق للشرق – منذ الاستقلال – أنْ انتفض من أجل إثبات ذاته، أو إثبات حقوقه وتأكيدها والمطالبة بها.. لكنَّ الشّرق – حتى الآن – لم يحضر إلى الفعل السياسىّ، الثقافىّ، الاجتماعىّ في السّودان.. وحين يفعل، سيكون حضوره فاتكاً جدّاً.

Exit mobile version