الموقف من المائدة المستديرة في مصر أول امتحان أمام تقدم!
الموقف من المائدة المستديرة في مصر أول امتحان أمام تقدم!
رشا عوض
رحبت بعض الأحزاب السياسية السودانية المنضوية في تحالف “تقدم” بالمبادرة المصرية الخاصة بتنظيم مؤتمر مائدة مستديرة للقوى المدنية السودانية في القاهرة تحت إشراف وزارة الخارجية المصرية نهاية يونيو الجاري.
على هذه الخلفية أرجو من هذه الأحزاب ومن تنسيقية “تقدم” أن تفكر بجدية في الحقائق الآتية:
أولاً: لن ترضى عنكم مصر الرسمية حتى تتبعوا ملتها! وهذه الملة هي الحكم العسكري وهو خيار مدمر للسودان، وكانت الحرب الكارثية الحالية هي نتيجته الحتمية! ولو توقفت الحرب على أساس حكم عسكري بأي صيغة، ستندلع الحرب مجدداً وفي زمن قياسي.
ثانياً: أي اجتماع سياسي تنظمه الحكومة المصرية سوف تتحكم فيه بالكامل ابتداء من تحديد الشخصيات التي ستشارك مرورا بأجندة الاجتماع وصولا الى مخرجاته، وهذا يتناقض مع جوهر فكرة المائدة المستديرة التي يتساوى اطرافها ويتحاورون بندية وبحرية دون وصاية او ترغيب او ترهيب ودون اي شكل من اشكال الهيمنة! يستحيل ان تسمح مصر للسودانيين بان يتحاوروا بحرية دون تدخلات مباشرة واملاءات مخابراتية مجهزة سلفا! ولن تتحرج مصر من ذلك ابدا لان ذهنية الوصاية على السودان مسيطرة عليها تماما، وضعف النخب المدنية والعسكرية السودانية المزمن امام الحكومات المصرية كرس هذه الوصائية المصرية وجعلها امرا طبيعيا جدا! لدرجة ان المخابرات المصرية في الماضي القريب، بكل بساطة اصدرت اوامرها لشخصية بقامة الامام الصادق المهدي- رحمه الله وتقبله في جنة رضوانه- بأن لا يسافر الى باريس للمشاركة في اجتماع قوى “إعلان باريس” عام 2017! وكانت تتوقع ان الامام سيسمع الكلام لان هذا ما اعتادت عليه! وعندما خالف الامام اوامرهم عاقبوه بعدم السماح له بدخول مصر!! وهو رئيس وزراء منتخب ديمقراطيا ويمثل أكبر حزب سياسي.
هذا هو أسلوب مصر في التعامل مع أكبر كبير في السياسة السودانية!! الاوامر الفوقية ثم العقاب حال عدم التنفيذ!!
الآن الأمور ازدادت سوءاً! إذ أن دخول السياسي السوداني وخروجه من وإلى مصر يحتاج إلى موافقة أمنية! فهل يعقل ان تخرج توصيات المائدة المستديرة دون “موافقة أمنية”!!
ثالثاً: انسب مكان لانعقاد مائدة مستديرة حقيقية هو دولة ديمقراطية مثل جنوب افريقيا التي نحتاج لاستلهام تجربتها الرائدة في التحول الديمقراطي، واتمنى ان تسعى تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية تقدم لإنجاح فكرة المائدة المستديرة باختيار المكان الصحيح، وقبل ذلك الاستعداد بالأجندة الصحيحة والتسلح بالإرادة الصلبة لتحقيق السلام وانجاح الانتقال التأسيسي الى دولة مدنية ديمقراطية.
نتمنى أن تثبت تقدم تقدميتها فعلا بتقديم دليل عملي على أنها محصنة من المرض المستوطن في السياسة السودانية والذي استعصى على العلاج لعقود طويلة ممثلا في “الخوف من مصر والخضوع غير المشروط لإملاءاتها بل الارتجاف رعبا من مجرد توجيه انتقادات علنية للسياسة المصرية وزجر من يفعل ذلك من السودانيين الشجعان امثال الدكتور النور حمد”!! إن التعافي من هذا المرض يجب ان يكون اهم معيار في تقييم وطنية وديمقراطية السياسي السوداني وكذلك في تقييم جدوى التحالفات السياسية للقوى المدنية.
سيكون أمراً محبطاً ومخيباً للآمال لو رأى المواطنون السودانيون “تقدم” التي استبشروا بميلادها خيراً لا تختلف عما يسمى “الكتلة الديمقراطية” وغيرها من الدمى التي تتلاعب بها مصر!!
رابعاً: من حق “القوى المدنية الديمقراطية السودانية” ان تسجل موقفا احتجاجيا ضد السياسة المصرية تجاه السودان منذ اندلاع الثورة وحتى الان! فمصر لم تسمح باذاعة خبر عن ثورة ديسمبر في اعلامها حتى يوم 9 ابريل 2019! وبعد سقوط البشير تدخلت تدخلات سافرة وموثقة في تخريب الفترة الانتقالية وفي تخطيط وتنفيذ ومساندة انقلاب البرهان وفي احتضان المطبخ الكيزاني الذي هندس الانقلاب والحرب، وبعد ان اتت رياح الحرب بما لا تشتهي سفن التآمر العسكركيزاني على الثورة السودانية طرأ تغيير في الخطاب الرسمي المصري عن الحرب في السودان باتجاه تبني الحل السلمي التفاوضي ولكن لم يطرأ اي تغيير على الموقف المصري من القوى المدنية الديمقراطية، وظلت السياسة المصرية هي تصنيع الحواضن السياسية للعسكر وتقوية وكلاء الحكم العسكري وتمكينهم من الفضاء السياسي والاعلامي والاشتراك المباشر معهم في تسفيه القوى المدنية الديمقراطية والتقليل من شأنها والتآمر عليها اختراقا وتقسيما واضعافا، فما هو المنطق في ان ترحب القوى الديمقراطية بعقد مائدة مستديرة تحت اشراف وزارة الخارجية المصرية؟
خامساً: واجب القوى السياسية المدنية ان تقدم سودان السلام والديمقراطية للجوار الاقليمي وفي مقدمته مصر كصديق متعاون في حفظ الامن والسلام وكشريك مخلص في بناء علاقات اقتصادية وتنموية منتجة تحقق المصالح المشتركة بين السودان والدول المجاورة له بما فيها مصر، ولكن لن يتحقق ذلك بعدالة تحفظ كرامة السودان والسودانيين الا بواسطة قوى سياسية تعرف متى تقول نعم ومتى تقول لا، وبناء العلاقات الايجابية بين الدول لا يتم بالمجاملات والسباق المحموم لإرضاء دولة لن ترضى بغير التبعية المذلة، بل يكون بتقوية المنصات الوطنية والتسلح بالتحالفات الذكية داخليا واقليميا ودوليا والقدرة على التعامل من مواقع الشراكة لا من مواقع التبعية.
مصر ناصبت الانتقال المدني الديمقراطي في السودان العداء السافر وأضرت بمصالح السودان الاستراتيجية ويجب أن تدفع مقابل ذلك ثمناً دبلوماسياً وبصورة معلنة.
لا للمشاركة في أي مائدة مستديرة أو مستطيلة في مصر هل هناك معضلة في تبني مثل هذا الموقف وهو أضعف الإيمان؟!
نقلاً عن التغيير