Site icon صحيفة الصيحة

أمرُّ على الدّيار، ديارِ ليلى..

أمرُّ على الدّيار، ديارِ ليلى..

عبد الحفيظ مويود

 

يا شبَهْ النِّجيمةْ الحايرة

ومَا خايفّة الشروقْ

عاطف خيري

ثمَّ..

أنّه، بعد توقيع اتفاقيّة الخرطوم للسلام، عام 1997م، استضاف تلفزيون السّودان “المتمّردين” الذين وقّعوا الاتفاقيّة مع الحكومة. كان ضمن الضّيوف د. رياك مشار، والرائد أروك تون. السّهرة كانت تريدُ أنْ تقول للشعب السّودانىّ إنّ المتمردين – فى نهاية المطاف – بشرٌ. قال د. رياك مشار إنَّ فنانه المفضّل هو صلاح ابن البادية. وحدّد أروك تون مفضّلاته من الأغنية السّودانيّة. ثمّة سؤال شبه غبىّ، امتطاه المذيع: “حتّى في الغابة بتسمعوا غنا؟”.

السؤال الغبي يمتطيه الأغبياء، عادةً. لذلك يستحق الرّدَّ الرُّباطابىّ. ذكرتُ مرّةً، فى فيسبوك هذا، أنّني سألتُ عمّنا محجوب الوداعة، فى جزيرة مقرات، عام 2004م عن مساخة الرّباطاب.. أجابني بأنَّ (الرُّباطاب قومٌ أذكياء. لا يحبّون السؤال الغبىّ..راجع أىّ مساخة من رباطابىّ، ستجدها ردّاً على سؤال غبىّ),

شايف كيف؟

يتّصلُ بك أصدقاء، أقارب، معارف، وأنتَ فى جوبا ” أها.. الأكل هناك كيف؟”. سأقبلُ الإجابة حين يصدر السؤال عن شخصٍ جديد. بمعنى أنَّه فتح عينيه ووعى بالدّنيا، والجنوب دولة قائمةٌ بذاتها. لم يشهد السّودان الموحّد، ولم يعشْ أيّام كنّا نسافر دون تأشيرة. لكنْ ما عايش – مثلنا – وحدة الدّولة السّودانيّة، سيكون السؤال حين يصدر عنه، شيئاً ما وراء الغباء، سؤالاً يتجاوز الغباء ذات نفسه.

كيف تستغربُ أنْ يكون فنّان رياك مشار المفضّل هو صلاح ابن البادية؟

حسناً…

هل غيّر جنوب السّودان غناءه؟ أمْ أنَّ الأغنية السّودانيّة هي جزء من ميراثه، جزء من تكوينه؟ جزء من البناء الفنىّ الذى يتحكّمُ فى ذائقته، بحيث سيجدُ نفسه غير مستعدّ للتعاطي مع الأغنية الشامية؟ قالوا للدكتور خليل إبراهيم، مؤسّس حركة العدل والمساواة، وشقيق د. جبريل إبراهيم، وزير الماليّة الحالىّ، إنَّ جنوب السّودان سينفصل بعد الاستفتاء، فقال “إلى أين سيذهب جنوب السّودان حين ينفصل؟”. لن يذهب بعيداً، أبداً.

شايف كيف؟

لكنَّ السؤال العميق: ماهي مساهمات جنوب السّودان في الأغنية السّودانيّة؟ ما هي مساهمات غرب السّودان الكبير؟ شرقه؟ شماله ووسطه؟ السؤال خاطئ من حيث المنشأ. ذلك لأنَّ الأغنية السودانيّة الحديثة هى جماع تلاقح كلِّ ذلك، كما إضافةً إلى التأثيرات الخارجيّة من دول الجوار، المحيط العربىّ، التركيّة، التأثير الأروبي. وبالتالي فإنَّ تنسيب الأغنية السّودانيّة إلى جهةٍ جغرافيّة، إلى حقبة سياسيّة، لا يعدو أنْ يكون بؤساً ثقافيّاً ومعرفيّاً وجهلاً مطبقاً.

يردّد عثمان النّو، الموسيقار ومؤسّس مجموعة “عقد الجلاد”، كثيراً بأنّه يختزن ما لا يمكنه أنْ يحيط به من إيقاعات وألحان جنوبيّة من خلال تجواله في طفولته وصباه وجزء من شبابه فى بقاع جنوب السّودان. سيحدثك عبد اللطيف خضر، ود الحاوي، الموسيقار الشهير، عن مخزونه من تجواله مع والده الحاوي في بقاع السّودان المختلفة، ما يجعله قادراً على وضع أكثر من ألف لحن. صاحب البصمة الأكاديميّة الأبرز في دراسات الموسيقى السّودانيّة، جمعة جابر، جاء من مدينة “المجلد”.

حين يجرى تنسيب الأغنية السّودانيّة الحديثة، إلى “أغنية دولة 56″، وأغنية الهامش، فإنَّ الذي يفعل ذلك شخص موتور، يتعمّد الزّج ب “الرّوح السّودانيّة” فى صراع سياسىّ فادح. الموقف السياسىّ من دولة 56 لم يقفه الهامش لوحده. ولا العداء السافر لطرق إدارة نّخبة ما بعد الاستعمار لشؤون الحياة العامّة، كان حكراً لحركات الهامش. د. منصور خالد أبرز الناقمين على دولة 56. د. خالد الكِّد، مثلاً، في نقده للـ “الأفنديّة”، وكلاهما أمدرمانيّان، غردونيان، مركزيّان.

تنطرح موضوعة دولة 56 فى كتابات بعض الأفّاقين، بعض الاسلاميين، بعض أنصاف المتعلّمين على أنّها دولة جهويّة. بل يجرى الرّبط بينها وبين مجموعات إثنيّة محدّدة، هى شمال ووسط السّودان. وعمداً يجرى تصوير الحرب الدائرة منذ 15 أبريل 2023م، على أنّها حربٌ تستهدف مكوّنات إثنيّة، وجهاتٍ محدّدة هى شمال ووسط السّودان. وذلك إمعاناً فى تسويق مشروع العرقيّة، العنصريّة، الجهويّة، على أنّها الأسس التي يخوض الدّعم السّريع الحرب لتحقيقها. الغرض كما هو واضح حشد المناصرين لموقف الجيش/الإسلاميين، بتحريك مشاعر القطيع، الدّهماء، والبسطاء. لذلك تجدُ شخصاً عاديّاً، بسيطاً، وأحياناً، متعلّماً يعيش في بيت جالوص في “المغاوير”، في “كبنة”، “الكُنيسة”، في “القُريْر”، في “مرّاغة”، في “عرب نارتى”، أو حتّى في “المناقل” وضواحيها، يخلفُ رجلاً على رجل، ويتصوّر أنّه – شخصيّاً – دولة 56، وأنَّ الحرب تعمل على تقويض سلطته.

بالطّبع لن يعمل أحدٌ على تصحيح مفاهيم ذلك الرّجل. بل العكس، سيعملُ أصحاب المصلحة الحقيقيون على ترسيخها عنده. فمن خلال تراكم غفلات هؤلاء، يمكنهم أنْ يستأنفوا رحلة حلب البقرة. فالامتيازات التي يتنعّم بها الحريصون على دولة 56 لن يصل فتاتها إلى “صاحب العرّاقي” القابع في بيت الجالوص في قرية “كَبنة”، أو في “أم مردِى”، “أمَكى”، أو قرى حلفا الجديدة. فالأصل أنَّ الإدارات الأهليّة في جميع بقاع السّودان هي مداميك أساسيّة في دولة 56. يستوى في ذلك بابو نمر، مادبو، سعد بحر الدّين، أحفاد المك عدلان، محمد الأمين ترك، على دقلل….الخ. تعمل الإدارات هذه، جنباً إلى جنب، مع أدوات أخرى صنعها الإنجليز، على إبقاء السلطة والامتيازات في أيادٍ محدّدة. لذلك هي – على طول الخطّ – ضدّ التغيير، إلا أنْ يكون تغييراً شكليّاً لا ينقص منها شيئاً.

إنَّ الخطر الحقيقي على “الرّوح السّودانيّة” هو في تسيس الثقافة والفن. إدراجها ضمن حقول النّزاع السياسىّ المسلّح وغير المسلّح. الرّوح التي انتجت الفن، الثقافة السّودانية الجامعة، المائدة السّودانيّة التي يجرى تنسيبها إلى جهة ما، الزّى السّودانىّ. ذلك أنَّ لبسة “على الله” ليست حكراً على جهة، أو ثقافة أو تيار سياسىّ. مثلها مثل “المركوب”، الثوب السّودانىّ النسوىّ، والكثير من مفردات “الرّوح السّودانيّة”.

بعضهم يريد أنْ يجعل عثمان حسين، وردىّ، محمود تاور، شرحبيل أحمد، محمود عبد العزيز…الخ هم (غنّايين دولة 56). لينسحب ذلك على كل فروع الفن والإبداع.

شايف كيف؟

Exit mobile version