صوت النساء: القوة الناعمة
أمل محمد الحسن تكتب.. صوت النساء: القوة الناعمة
الحرب يصنعها الرجال، وتدفع فاتورتها النساء! لم تنقطع الحرب عن البلاد طوال عقود في جنوب البلاد ثم في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق قبل أن تندلع الحرب الجهنمية الأخيرة من الخرطوم، وتتوسع في بقية البلاد، وحتى الولايات التي لم تصلها الحرب تعيش في شظف من العيش مع توقف الأعمال والمؤسسات الخاصة والحكومية ومعظم المصانع التي كانت مقرها عاصمة البلاد.
العبء الأكبر في هذه الحروب يقع على عاتق النساء الأمهات والأخوات والحوامل والمرضعات، هن من يقع عليهن تنظيم شؤون الأسرة بموارد شحيحة وضمان وضع لقيمات في الأفواه الجائعة والسهر على المرضى بدون مساعدات طبية.
تعاني النساء الحوامل اللاتي يضطررن للتعامل مع هذه الظروف، ويختبرن مواجهات مع الموت، وهن يعملن على الحفاظ على الحياة التي تقبع داخل أرحامهن! النساء هن من يشعرن بمرارة الفقد الأكبر عند موت الأزواج أو الأبناء، ولا أتصور كيف يكون شعور أم وهي تحمل بين يديها طفلاً أصابته طلقة طائشة أو شظية وهي لا تعرف إلى أين تتجه وسط الأنقاض والقصف وأزيز الطائرات الحربية!
اضطرت الكثير من النساء ربات البيوت للعمل في أي مهنة، لأول مرة في حياتهن بعد أن انفصلن عن المعيل، أو فقدنه ليلعبن أدواراً مزدوجة في العمل وتوفير الغذاء وتربية الأبناء والاهتمام بهن في ظروف يعاني فيها الجميع، ولا يملك أحد فائض لقمة لغيره!
فقدت النساء خصوصيتهن في ممارسة أبسط الحقوق من استخدام دورات المياه للتعامل مع عادتهن الشهرية بوجودهن وسط أعداد مهولة من الغرباء في مراكز إيواء، مدارس أو غيرها، وأذكر أني التقيت عروسا في مركز إيواء بمدينة دنقلا يفصلها وزوجها عن بقية اللاجئين ملاءة تعصف بها الريح جيئة وذهابا كانت تردد “أنني لم أكن هكذا” تفتقد وضع الزينة والاهتمام بنفسها يقتلها كونها تظهر بذلك الشحوب وهي في أجمل أيام حياتها!
أما ما تتعرض له النساء من العنف الجنسي بكل أنواعه وأشكاله، فهذه قصة أكثر وحشية وقسوة وقرف! السبب الرئيس خلف استمرار هذه الانتهاكات والجرائم ضد النساء؛ لأنه لم تتم فيها محاسبات سابقة، لا في جرائم الاغتصابات في حرب الجنوب ولا في دارفور، الأمر الذي جعلها تتطور وتتفاقم ولا تنحصر في الاغتصاب، بل تطورت لجرائم الاسترقاق الجنسي وحبس الفتيات والنساء رفقة الجنود لارتكاب ذات الفعل القميء عدة مرات أو ربما بيعهن مثل الرقيق!
أما السيدات اللاتي سكن في معسكرات اللجوء إلى عقدين من الزمان في الفاشر أو الجنينة أو أي مكان آخر في دارفور هؤلاء معاناتهن لا يمكن لشخص أن يدعي أنه يشعر بها أو يتصورها! طوال عقدين مثل المعسكر المسكن والوطن ووسط هذه الحرب والمواجهات التي بدأت في الفاشر سيفقدن حتى ذلك الجزء الشحيح الذي منحته لهن الحياة! خيمة وسط الأمطار والهجير! وتبدأ رحلة نزوح أو لجوء محفوفة بالمخاطر والجوع والقهر والأطفال في ظهرها أو بين بيديها ولا أذن تستمع لذلك النحيب ولا عين تبصر سيل الدموع!
فقدنا الكثير من السيدات كبار السن خلال هذه الحرب، من أهلي وجيراني، لم يقتلهن الرصاص ولا الجوع، قتلهن الاكتئاب! في عمر السبعين اضطررن لمغادرة منازلهن والفرار، فقدن حياتهن البسيطة، لمة جيران على طبق “ٌقراصة” أو “عصيدة”، مساهمة في واجب فرح أو ترح، الذهاب للسوق المجاور والجلوس في الطرقات في ضل ضحى شتوي. جثم الهم والغم على صدورهن لم يحتملن شعور تحولهن لعبء على الآخرين، الأبناء أو الأهل.
هؤلاء النساء هن من يجب أن يقلن رأيهن في الحرب، وأن تسكت المدافع، ويجلس الجنرالات في الأرض للاستماع إليهن! صوت النساء هو الأمر الغائب وسط هدير المدافع والتزاحم نحو السلطة ولا أحد يدير وجهه لينظر في وجوه النساء اللاتي اضطررن لترك منازلهن، وفقدن أحبابهن اللاتي أصبن ولم يجدن من يضمد جراحهن، النساء اللاتي قهرن وانتهك شرفهن وعرضهن، كاذب من يقول إن هذه الحرب من أجل استرداد ذلك الشرف المسلوب؛ لأن الحرب هي مسلسل يجر المزيد من الانتهاكات، وتغتصب فيه مزيدا من الحرائر، وبعد أن تسكت البندقية، ويجلس جنرالات الحرب للتفاوض لا أحد يتذكر النساء ولا أحد يقدم جنوده الذين ارتكبوا هذه الجرائم الشائنة للمحاسبة!
يبتسمون أمام الكاميرات، ويقتسمون ما تبقى من جسد مهترئ للوطن، ويمضون ولا أحد يتذكر صوت أنين سيدة تعرضت للاغتصاب، ولم يعرف النوم طريقا لجفنها! كلهم كذبة وكلهم شركاء في هذه الفعلة.
كنت ضمن مجموعة من السيدات التقت المبعوث الأمريكي “توم بريللو” في العاصمة الكينية نيروبي، لم تقل سيدة واحدة من الحضور “بل بس” ولم تقل سيدة واحدة إن الحرب يجب أن تستمر لتثأر لحقوقنا، النساء جميعهم تحدثن عن ضرورة وجود النساء في المفاوضات ليقلن ما لديهن مباشرة في وجوه الجنرالات!
الحرب يصنعها الرجال ونحن من نحمل قبحها! خرجنا من منازلنا، دون أن نحمل معنا أي شيء! كل سيدة التقيتها لديها أشياء عزيزة تركتها في منزلها تبكي عليها ليل نهار، النساء هن من يعمرن البيوت، ويرتبطن بكل قطعة أثاث أو زينة.
قبل الحرب لم نكن نعيش في رخاء، ولم تكن حياتنا مملوءة بالألوان! لكننا مع القليل الذي كان بين يدينا كنا نعمل على توظيفه، تقاسمنا اللقمة ولم نفت جلسات القهوة الجماعية في الحي، كنا نتحدث عن خيباتنا نبكي ثم نضحك ونستمع للأغاني، ونستدين من بعضنا البعض ثوب سهرة أو حذاء!
كنا نعمل من أجل التغيير، لن أنسى كيف أنه في فجر انقلاب 25 أكتوبر سمعت صوت جاراتي بحي العباسية في أمدرمان عاليا في الشارع خفت أن تكون جاراتي على خلاف خرجت مسرعة لأجدهن يقمن ب”تتريس” الشارع، وكانت جارتي كلما شاهدت أحدهم يسير نحو عمله صرخت فيه ارجع إلى المنزل! لم تكن عضوة في حزب، ولم تكمل تعليمها الجامعي، ولا تعمل في أي وظيفة، لكنها أم سودانية تريد أن ترى مستقبلا أفضل لأبنائها!
كانت زغرودة نسائية صاخبة وصادحة جرس انطلاق المواكب؛ تجعل الأبدان تقشعر والحماس يسري في الأجساد، كانت الفتيات تتقدمن الصفوف، وتزاحم الشباب في الهتاف وحتى في مواجهة العسكر! فقدت الكثير من السيدات أبنائهن شهداء الثورة ومهرها الغالي، لكن ذلك لم يفقدهن إيمانهن بالثورة ولا التغيير، التقيت عددا كبيرا من أمهات الشهداء، ورأيت كيف أنهن كن يخرجن في المواكب بدلا عن أبنائهن، وحملن الثورة فكرة وأمانة يحفظنها من الموت!
النساء هن الأولى بإدارة هذه البلاد التي كلما صعد فيها جنرالا للحكم ثبت أقدام كرسيه على جماجم العباد! حان وقت “القوة الناعمة” لأن تقول كلمتها، وتترك لها شؤون الحياة، فالنساء اللاتي نهضن بعد كل هذه الانتهاكات والوجع هن الأقدر والأجدر على إدارة الدولة وهن من يعانين الصراعات وهن فقط من يستطعن أن يجعلنها آخر الحروب.
على الجنرالات الاستماع لصوت النساء، النساء في معسكرات الإيواء، وفي معسكرات النزوح والنساء المحبوسات وسط مناطق الحرب في الخرطوم ودارفور وكردفان والجزيرة النساء الذين طُرِدْن من المدارس في نهر النيل النساء اللاتي فقدن طفلا أو زوجا النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب النساء اللاتي يستقبلن في منازلهن الأهل والأصدقاء النساء اللاتي خرجن من السودان لدول الجوار، اللاتي من طُرِدْن من الشقق التي عجزن عن سداد ثمن إيجارها في القاهرة، أو اللاتي لم يجدن مسكنا ملائما في كمبالا، النساء اللاتي انضم أبناؤهن للدعم السريع أو الاستنفار، ويردنهم أن يعودوا سالمين، هؤلاء هن من يجب أن يقررن في استمرار الحرب أو توقفها.
نقلاً عن التغيير