دكتور الوليد آدم مادبو يكتب…خلاصنا يمرّ عبر الفاشر
يكفي ما أُريق من دم سوداني في دارفور. لقد تحمَّلت دارفور كثيراً في سبيل التخلص من النظم الاستبدادية والاستعمارية في السودان، ابتداءً من حملة الزبير باشا التي كان الغرض منها استتباع دارفور للحكم التركي المصري، مروراً بالمهدية التي تحمَّلت عبء التخلص من التركية وحمَّلت دافور مغبة الهجرة القسرية إلى أم درمان، انتهاءً بمقتل السلطان علي دينار الذي لم يكن أخر المقاومين للهجمة الاستعمارية البريطانية لكنّه كان المحفز والمحرّض على فعل المقاومة لنظام الأبارتايد العنصري الذي شيّدته بوعي وبدون وعي نخب الحكم الوطني. وحدها فقط الأبحاث العلمية ستكشف لاحقاً إن كانت النخب المركزية قد فشلت أو قد تعمّدت عدم إدماج دارفور في دورة الاقتصاد الريعي الذي تركه المستعمر، بيد أن الواضح أن الإفقار كان سبباً مباشراً في الإبقاء على تلكم البقعة الغنية كمورد رئيسي للمحاصيل الزراعية والثروات الحيوانية والحفاظ عليها كمخزون استراتيجي للعمالة الرخيصة والسواعد المتمرسة على القتال.
هنالك عوامل عدة اسهمت في تأزم الوضع في دارفور جعلت منها بؤرة نزاع وقد كان من الممكن أن تكون بمثابة كاليفورنيا إفريقيا من حيث الموارد البشرية والمادية. أولى هذه العوامل، العامل الجيو-استراتيجية والسياسي الذي جعل منها منطقة تقاطع بين النفوذ الفرنسي والنفوذ البريطاني، بين الطموح التوسعي الليبي في عهد القذافي وذاك الإسلاموي في عهد البشير، ومؤخراً بين الطموح الأمريكي الذي يعمل عبر وكلائه في المنطقة وذاك الروسي-الصيني. ثاني هذه العوامل العامل الجغرافي والبيئي الذي كان ينذر بحتمية التصحر واحتمالية نزوح بعض القبائل التي تقطن شمال دارفور جنوباً وشرقاً في اتجاه نيالا واللعيت جار النبي والضعين. ثالث هذه العوامل وأخطرها هو العامل الأمني العسكري الذي جعل النخب الشمالية، الإنقاذية خاصة، تتعامل مع دارفور كمستوطنة، سيما بعد حرب الجنوب، يلزم الحفاظ عليها بالقوة وليس كمنطقة حدودية ومديرية سودانية يجب التحوط لما يدور حولها والاستفادة من موروثاتها في ترشيد الحكم وتوظيف ما بها من مقدرات.
كنت فتىً يافعاً توكل لي خدمة الأضياف عندما كان قادة دارفور يجتمعون في منزل الوالد إبّان أزمة الإقليم عام 1980 للتفاكر حول مآلات ذاك الحدث الفريد الذي أسفر عن وحدة لا تضاهى وعزيمة قلّ أن تتوفر. كان القادة على مستوى من الأخلاق والرشد والمهنية جعلتهم يتنادون للتفاكر حول مصلحة مجتمعاتهم وحثتهم للتباحث حول إمكانية الحفاظ على اللحمة السياسية والمجتمعية التي تجعل دارفور رصيداً للوحدة الوطنية كما تجعل من قيمها وموروثها ذخراً لمستقبل الأيام. تلك الوقفة الوطنية الصلبة والوحدة القومية الباهرة لم تعجب الديكتاتور نميري فقرر تشتيت شمل أهل دارفور ومن حينها أصدر تعليماته لجهاز الأمن، تحديداً للسيد/ كمال حسن أحمد، بضرورة تفريق أولئك “الغرابة” الذين جرأوا على تحديه وألزموه بوحدة الاقليم الذي يجب أن تكون عاصمته الفاشر وحاكمه أحد أبناء الإقليم الأفذاذ وهو المرحوم أحمد إبراهيم دريج. من هنا كان التعويل على معزوفة زرقة-عرب التي تبناها بعض المتسلقين من أبناء دارفور الذين وجدت الإنقاذ من بعد ضالتها فيهم فوظفتهم لاستراتيجية فرق-تسد وحفزتهم بالمال والمناصب لإبادة ذويهم والتنكر لمواثيق الآباء والأجداد ﴿أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
سعت دارفور لتحقيق أهدافها مدنياً ولم تلجأ للبندقية يوماً إلّا عندما فُرضت عليها، وهي ما زالت تحبذ الخيار المدني الديمقراطي وترتضيه وسيلة لحل النزاعات السياسية وإن استعصى حلها وبدت لا تلبي طموحات الأجيال الصاعدة. لقد برزت دارفور جلياً في ساحة الاعتصام واستحقت سهمها من حضورها الشجاع – الذي لولاه لم تنل الثورة كتلتها الحرجة – ونالت قيمتها من جراء فعلها التراكمى في التضحية بالغالي والنفيس. كان الاستاذ/ حامد علي محمد نور ممثل المجتمع المدني في نداء السودان نيابة عن داسف (Darfur Civic Society Forum) فتم استبعاده لحاجة في نفس يعقوب في اللحظة قبل الأخيرة لتكوين قوى إعلان الحرية والتغيير. لم يدخر الهامش يوماً جهداً لتكوين أجسامه المدنية لكنه في كل مرة يواجه بمؤامرة من أدعياء الديمقراطية أو عصابات الأنظمة العسكرية. حتى التكوينات الاقتصادية لم تنج من صلف النخب الشمالية المدينية التي كانت وما زالت ترى في تجمعات الهامش خطراً على نفوذها السياسي ومن ثم تعدياً على “استحقاقاتها” الاستثمارية والتجارية. يمكن النظر لبنك تنمية الصادرات كنموذج للاستهداف الذي طال مؤسسات غرب السودان، النظر لطريق الغرب أو لمشروع غرب السافنا.
لا يعاني السودان من شئ مثلما يعاني من “ارتدادات العقل المركزي وتوهماته.” تقول لي إحدى السيدات المتعلمات الخرطوميات أنها ندمت على مساعدة جارة لها مسكينة من الهامش، لأن الأخيرة دلت السُّراق على خزائنها. لماذا يكون هؤلاء تحت رحمتنا من الأصل؟ ألم يكن الأولى أن توفر لهم الدولة احتياجاتهم الأساسية كي لا يلجأوا إلى مثل هذا الفعل المشين؟ عوضاً عن مساعدة الحرب جماعة البرجوازية الوسيطة على تفتح أبصارهم وقلوبهم وتفهمهم لدواعي الغبن الاجتماعي وإفرازاته باتوا يروجون لأنفسهم على أنهم ضحايا مؤامرة استهدفت أعراضهم وأموالهم. إن تك ثمة مؤامرة فهي من الإنقاذ التي استهدفت الطبقة الوسطى التي تعتبر عماد النهضة في كل البلدان مرتين، مرة عندما حاربتها في رزقها فلجأت إلى الهجرة أو الاغتراب ومرة عندما عجزت عن حمايتها في عقر دارها وآثرت الاحتماء بحامياتها العسكرية. إذاً لابد من مناقشة الأسباب المؤسسية والبنيوية لتلك الجرائم النّكراء التي ارتكبت في حق المواطنين السودانيين كافة وعدم الاكتفاء فقط بإدانة ذلك السلوك.
لم يكف نظام الإنقاذ عن التلاعب بمصالح المزارعين ومحاولته ضرب استقلاليتهم الاقتصادية وذلك باستيراد الزيوت من ماليزيا في وقت يتدفق فيه محصول الفول وتشرئب فيه أعناق الغلابة لربح يقيهم شر المسغبة، لكنه أيضاً أرسل طائرات لضرب الأهالي الوادعين في قراهم، فلجأوا للخرطوم للعيش في ظروف ظالمة وقاهرة.
لم يستثن الكيزان (إسلاميو السودان المفسدون) حتى أصحاب الدرداقات من الأتاوات ففرضوا عليهم ضريبة تؤدى آخر اليوم تفادياً للمصادرة أو حتى الإيداع في السجن بحجة أو بغير حجة فسمت المرء وسحنته كفيلة بإدانته في بلد يعاني من العنصرية لقرون ولا يريد أن يتحرر من خرافة الصفاء العرقي بل يخاف ويتهم من يحرضونه على التحرر بالعنصرية. في ذات الوقت الذي يتكلم فيه أهل الوسط النيلي عن “حرب الكرامة” تفاجأ الجميع صباح يوم الخميس 14 مارس 2024 في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحاً بقصف مُباغت لسلاح الجو السُّوداني (طائرة إنتينوف) على قرية (الهدرا) بمقاطعة دلامي – بجبال النوبة، حيث أسقطت عدداً من البراميل المُتفجِّرة أدَّت إلى استشهاد (11) تلميذ واثنين من المُعلِّمين.
إن الأزمة اليوم باتت أزمة مركبة برز منها الجانب السياسي العسكري ولم يتوارَ تماماً الجانب الاجتماعي القبلي لكنه لا يملك التأثير اليوم قدر ما يتأثر بالفعل المباشر لقادة المليشيات. هؤلاء يجب أن يتفكروا ملياً في خطورة المواجهة العسكرية التي ليس من شأنها فقط أن تنسف تراكمات الفعل الإرادي، ولكنها أيضا ستثير مواجع وتستعيد ذكريات تم تجاوزها بإرادة الفعل الجماعي والحضاري الذي عمد إلى تجاوز القبلية كآلية سياسية ولم يلغ القبيلة كوحدة اجتماعية. مثلاً، يقول الأستاذ/ عبد الله آدم خاطر إن قبيلة الرزيقات كانت هي الصانع أو القاطع (maker or breaker) في كل المحطات التي مررنا عليها في الفقرات السابقة، ولذا فإن من واجب قيادتها في هذه اللحظة التاريخية الحرجة أن تستلهم قيم الأولين وأن تدرك الخطر الاستراتيجي الذي يمكن أن يحيق بالإقليم حال تعرضه لنكسة ثانية أو ثالثة.
ختاماً، إن قوة دارفور في وحدتها ووحدتها في الاستمساك بقيم الحق والفضيلة وعدم التجني على حقوق الآخرين. لن يتعافى السودان حتى تتعافى دارفور من أزمة تسييس الهوية، الدور الذي قامت به النخب المركزية، وتنأى ما أمكن عن عسكرة الحياة السياسية، الجريمة التي ساهمت فيها النخب الدارفورية (Militarization of Politics & Politicization of Identity). لم تكن دارفور الجاني حتى زمن قريب بل كانت مجنيٌ عليها. يجب أن نواجه المركز بالحقائق، فالمجاملة لم تعد مجدية وما عانته دارفور من جرائم عانته بسبب تنفذ بعض الإثنيات واستحواذها على نصيب الأسد في كافة اللجان الأمنية في دارفور فترة الإبادة الجماعية. النخب المركزية ليست في أي موقع أخلاقي يؤهلها للقيام بدور الواعظ فهي والغة في الإثم حتى أذنيها. قد يمثل المركز ملاذاً للهاربين من هوياتهم والباحثين عن الاعتراف من الآخرين (المعني الأنثروبولوجي لمصطلح فلنقاي)، أمّا الوطنيّون فيسعهم التفكير في قيم الأولين وفي رمزية الفاشر (أبو زكريا)، وما يثيره من أشواق شجية ترتبط بوحدة أهل دارفور ووقفتهم البهية في وجه الطاغية تلكم العشية من عام 1980. هلا اعتبرنا؟