المُفاصلة (2 – 2)
كَان البعض يُحاول إثناء الطرفين عن الإقبال على ما سبق عليه العذل, وكان الشيخ كأشد ما يكون العنت وكذلك تخلى البشير عن )دهمشيته( ليعرض وسط (المديدة الحارة) والتي تنافس على تقديمها بعضٌ من الذين فتحت لهم المُفاصلة أبواب رزق جديدة ومكانة لم يكونوا بالغيها بشق الأنفس.. كل مذكرة العشرة ذهبت إلى القصر.. لم يستقل أحدٌ من الوزارة, ذهب الشباب إلى (المنشية) ثم ما لبثوا وأن عادوا أدراجهم إلى القصر!!
قصر النظر وغياب الرؤية الكلية هو الذي أفضى بالإخوان إلى المُفاصلة، يوم أن دفعوا بالتوليفة الخاطئة للعب المُباراة منذ الـ30 من يونيو على تعامي وإصرار..
وكأنّما غفل الترابي عن عِظَات التاريخ القريب والبعيد وهو يذهب حبيساً، ويذهب البشير إلى القصر رئيساً, تلك الكَرّة الخاسرة التي لم نجد لها من التبرير والمنطق في كل مساهمات الدكتور حسن الترابي الفكرية المُخالفة تماماً لما أنجزه في ثورته لإنقاذ الشعب السوداني!! فأفكاره تتسق كلها وأمر (الحريات) وحتمية بسطها على الناس كافة وحتى لا يفارق السلطان الخط المدني فيرتد إلى التعالي السياسي والفساد الكبير:
(إن السلطة في حياة الإنسان تقوم على التوحيد كسائر وظائف الحياة، فلا تفسدها طاعة لمُستكبرين بنفوذ دنيوي من مال وقوة، ولا لمقدسين من طائفة أو مؤسسة تحتكر حجة الله وحكمته وتستلب ربوبيته العليا).
فمن أين أتت فكرة الانقلاب؟! وأين هي المسودات والمُخَطّطات الفكرية التي بنيت عليها.. غالب الظن أنها ولادة خارج الرحم, وهي خطة عسكرية سياسية محضة لم تحظ بأيِّ تمحيص معملي، ولم تستند على أي جدل فكري لا في أروقة الحركة ولا في عقل قائد الحركة ولا أوراقه. تنبسط أمامك حينما تقرأ للترابي آفاقاً ممتدة من اليقين بأن أمر الأمة لا يصح إلا بإنفاذ إرادتها الحرة والمُختارة شورى ومحاججة بالمنطق والرأي والمناصحة.. لكنك لا تجد الإنقاذ إلا حين ينفض عنها بالمُفاصلة:
(فالحركة قاربت السلطان متوكلة على الله لاطمئنانها بمن فيها من إخوةٍ توثّقت مَودّتهم وتَزكّت تقواهم وتطهّرت أمانتهم وتهيأت ثقافتهم).
إذن وعلى (اجتهاد براجماتي) بالغ الخطأ والخُطُورة مال الترابي إلى التوكل ثقة بأنّ أولئك العسكر قد يحملونها عنهم قليلاً ثم لا يلبثوا أن يردوها إلى أهلها وهم من مغرم مثقلون.
لم يكن ثمة اتفاق بينهما على ذلك, ومُمانعة العسكر منطقية ومشروعة، بل أنّ دعاوى الترابي ومُحاولته إعادة (بَكْرَة الخيط) مِن جديد كانت مجدفة غير مَعقولة بما يُشابه العبث و(طق الحنك) أمام واقع (متقرفص) لا يجدي معه حتى إرسال الأنبياء واجتذاب النصوص!!
(فما مضت سنوات حتى بدأ سوء طبع إمرة العسكر الذي أقامه الإسلاميون على ظهورهم وسُوء العاقبة عليهم هم. فالعسكر فتنتهم أهواء التسلُّط والاستكبار، لأنّهم عهدوا في نهج القيادة العسكرية رُوح الجنوح للربط والضبط المُتعالي المُفرط في كل شيء وتنزيل الأمر اللازم دُون مجال للشورى والنصيحة من سائر الصحب واتخاذ القرار تلقاءً وفجأةً دون بيان أو إعلان لمهاد التفكر في حثيات القرار).
صحيحٌ إنّ كف الترابي أثقلته الضراعات اعتذاراً عن انقلاب الإنقاذ بخطأ اللجوء إلى العسكر لحمل المُجتمع على حكم الإسلام كرهاً.. فهل تقبل الأجيال والتاريخ عذره..؟