من يدفع رسوم التأجيل..؟
لعل أي قراءة خاطفة قد تكون خاطئة في ما يدور في الساحة السياسية، وما تومئ إليه وتشير عملية تأجيل إعلان الحكومة التي كان من المنتظر أن تُعلَن مساء أمس، وتم تأخيرُ إعلانها تحت ذريعة مزيد من التشاور السياسي، وإتاحة الفرصة لرئيس الوزراء لعجم عيدان الكنانة المنثورة أمامه، فإن من ينظُر إلى حقيقة ما يجري يلحَظ انجرار السياسة السودانية إلى نفَق ضيّق مُظلم، تعودُ فيه الأحزاب والقوى السياسية إلى ذات النمط القديم المُستَقبَح في ممارسة العمل السياسي، حيث لم ولن تتم أية عملية تحديث تُخرِج الأحزاب إلى باحة فسيحة من التطوّر والتعاطي السليم مع الواقع الماثل، وتصبح أكثر مرونةً في فهم أبعاد التطوّر الاجتماعي الذي حدَث في البلاد خلال ثلاثة عقود أو أربعة، فالأحزاب هي ذاتها تتقَهقَر إلى ماضيها مُستعيدة مفاهيم بالية حول العلاقة بين السلطة والحكم وبين التربّح والتكسّب السياسي ومُحاولة السيطرة واستخدام أدوات الدولة في توطيد النفوذ وخدمة الغرض الحزبي.
ومن خلال متابعة سلوك قوى إعلان الحرية ومكوناتها، ودراسة هذا النوع من التحالُفات السياسية وإيقاعها، نجد أن هذه الأحزاب وهي تحوز على السلطة في شراكة نادرة مع العسكريين، تمارس بما يعرف في عالم سوسيولوجيا السياسة (التآكل التدريجي) للأهداف والشعارات التي رفعتها هذه الأحزاب، إذ صارت بدلاً من قيادة التحوُّل السياسي والوصول به إلى غاياته مع أفكار جديدة تترافَق مع التطوّرات الاجتماعية وتعالج حالات النشوز البائنة، صارت الأحزاب في أول اختبار لها صريعة الداء المُهلِك والمُميت لأي حزب سياسي، وهو التمسّك بقشور السلطة واقتسامها والطمع فيها بأي ثمن وتنفيذ الأجندة الخاصة والانغماس في السلوك غير الرشيد انسياقاً وراء تخصيص وتأمين وحماية المصالح للطبقة السياسية التي ظهرت على الواجهة.
لم تخرج أحزاب الحرية والتغيير من دائرة الشرَه والطمع والتكالُب على السلطة وتغليب مصالحها على الهم الوطني، فسلوكها كان فاضحاً ومحزناً في اختيار الحكومة وتحكّم مجموعات محددة داخلها في عملية الاختيار والترشيحات التي رُفعت إلى رئيس الوزراء، والشكوك حول وجود منافع تبادُلية داخل لجان الترشيحات بين أعضائها، وإرضاء هذا وتهدئة ذاك، والمحسوبية في طرح الأسماء وصنع لوبيات داعِمة ورافِضة داخل الاجتماعات، فمثل هذا النوع من المُمارسة السياسية يُعطي مؤشّراً واضحاً أن الأحزاب لم ترتَقِ إلى مصاف العمل السياسي الناضِج، ولم تتحوّل الأحزاب بعد إلى مؤسسات ديمقراطية تعمل من أجل الصالح العام وتقود عمليات التنمية السياسية وبناء دولة قادرة على التطور والنهضة والاستقرار.
ثم إن مفهوم الكفاءة والحياد والاستقلال الذي اعتُمد من الأساس ليكون هو المعيار في اختيار الحكومة، جُرّد هذا المفهوم من معناه الحقيقي، وأصبحت قوى الحرية والتغيير تقتسم السلطة كما جاء في ترشيحاتها على طريقة اقتسام الأسلاب والغنائم وتوزيع الأنصبة والأرباح بين شركاء، فقد اجتهدت اللجان التي قامت بالترشيح في كل شيء إلا في تقديم ترشيحات مقنعة بلا عيوب وخالية من أية مثالب تطعن فيها، والعيب هنا ليس في الأشخاص إنما في الطريقة التي تمّت والمُحاصصة التي جرت وعدم ضبط المعيار حتى يأتي بأشخاص تخلو صحائفهم من الولاءات الحزبية الضيّقة، ولا ينتمون إلا إلى عالم المعرفة والكفاءة والخبرة والانتماء الوطني دون اصطفاف أو ارتباط حزبي.
وتعثر إعلان الحكومة نتيجة للاختلافات التي نشبت بين قوى إعلان الحرية والتغيير وظهور نواقِص ومعايِب في طريقة الاختيار والتنافُس الداخلي بين مكونات التحالُف السياسي الموكَل إليه تأليف الحكومة، ويبدو أن هناك ما هو أعمق وأكثر غوراً في سلوك قوى الحرية والتغيير، التي تُواجَه باسئلة قاسية جداً وحارقة، خاصة ما يتعلق بالتعديل غير المشروع في الوثيقة الدستورية والتجاوزات الخطيرة فيها والاتهام بتزويرها، فضلاً عن التطاحُن الذي تلوحُ نُذُره بين مصالح الحاكِمين الجدُد.. من يعِش رجباً يرى عجباً..!!