هذه ليست حرب جنرالين!
خالد عمر يوسف يكتب.. هذه ليست حرب جنرالين!
ينشط بعض أبواق الحرب في الترويج لفرضيات ساذجة مفادها أن هذه الحرب ما هي الا صراع جنرالين وحسب أو مغامرة قائد مليشيا مجنون قرر ذات صباح أن يحرق كامل البلاد بعون خارجي وبس!! سردية مبسطة موغلة في السطحية تفترض أن السودان قد ولد في ١٥ أبريل الماضي وأن ما سبق ذلك كأنه لم يكن ولا علاقة له بحريق البلاد الشامل الذي يحدث الآن!!
الهدف من هذه السردية الساذجة هي الترويج لنموذج حل مفصل على مقاس من أشعلوا هذه الحرب.. طالما إن هذه هي المشكلة “فالحل في البل”.. لا داعي أن يرهق أحد ذهنه في التفكير في جذور هذه الحرب ومسبباتها ومآلاتها.. ساعة النصر قادمة سيهزم فيها الأشرار “وخلاص بعدها كلو تمام سعادتك”.. سيخلو وجه السودان لمشعلي الحرب ليقيموا نموذجهم البائس بقوة الحديد والنار.. وسيسعون لاكساب حربهم هذه شرعية بتصويرها حرباً من أجل الوطن وسيادته وكرامته.. هكذا ببساطة لا عبرة ولا اعتبار.. فعن أي سيادة يتحدثون والسودان الآن لا دولة فيه، وعن أي كرامة يتحدثون والملايين يهيمون على وجههم لا يملكون قوت يومهم، ويموتون كل يوم في المنافي حسرة على ما آل له حالهم بفعل هذه الحرب لا يحلمون سوى بالعودة لديارهم فقط لا غير.
كيف يمكن فهم هذه الحرب بصورة كاملة دون الغوص عميقاً في فهم تاريخ المؤسسة العسكرية في السودان، والمصالح الاجتماعية التي عبرت عنها، وطموحاتها السلطوية، وتغولها على السياسة والاقتصاد، واستنصار قوى سياسية بها لحسم صراعات السلطة بينهم ومن ثم هيمنة الاسلاميين عليها لعقود طويلة واستخدام نفوذهم داخلها لفرض ارادتهم على شعب السودان.. استخدام تحدوا به ثورة خرج فيها الملايين فافسدوا الانتقال وانقلبوا مع قادة اطراف القتال الحالي على الفترة الانتقالية وقادوا البلاد لحرب حين فشل الانقلاب وابتدرت عملية سياسية تهدف لاستعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي.
كيف يمكن أن نحيط بحيثيات هذه الحرب دون ان نتدبر في تركيبة الدولة التي خلفها الاستعمار، والاختلالات الواضحة في بنيانها وتعبيرها عن مكوناتها، وثورات الهامش السلمية منها والمسلحة، وكيف تصرفت الدولة المركزية حيال ذلك؟ كيف قسمت القبائل وسلحتها واستخدمتها ضد بعضها البعض؟ تنشيء فصيلاً مسلحاً ليواجه فصيلاً مسلحاً اخر، ومن ثم تغير تحالفاتها لتنصر الفصيل الذي كان في خانة العدو وتستخدمه ضد صديق الأمس، طاحونة مستمرة تطحن البلاد، خلقت وضعية جيوش متعددة لا لشيء سوى الحفاظ على نمط مركزي محدد فشل ونحن نعيش الآن نتائج ذلك الفشل!
لن تتوقف الحرب بالتبسيطات، وإن كانت بدأت ظاهرياً كصراع مسلح بين القوات المسلحة والدعم السريع، فإنه من قصر النظر أن نغفل اليوم عن طبيعتها المتغيرة بصورة دراماتيكية.. كيف تصاعدت خطابات الكراهية وخلقت توتراً بين مجتمعات لا بين جنرالين فحسب.. كيف تصاعدت إرادة استعادة النظام القديم وقبر الثورة مرة وإلى الأبد.. كيف صار السودان ساحة لصراع اقليمي ودولي فتاك يستغل تمزيق السودانيين لبلادهم بأيديهم.. ان كانت هذه الحرب حرب جنرالين أو قائد مليشيا فحسب كما يريد البعض أن يصورها فإن الحل الآن ليس في مصالحة الجنرالين ولا في انتصار طرف على الآخر. لا مجال الآن إلا لصياغة عقد اجتماعي جديد يتعايش فيه جميع السودانيين/ات بعدالة وانصاف، وتنتهي فيه صراعات السلطة المسلحة ويصير تداول الحكم سلمياً عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، وتكون فيها الدولة للجميع ليست لحزب أو مجموعة بعينها، ويبنى فيها جيش واحد مهني وقومي يعبر عن كل السودان بحق وينأى عن السياسة والاقتصاد وتقتصر مهامه على حماية البلاد من المهددات الأمنية وفق الدستور ويعمل تحت إمرة السلطة المدنية الشرعية.
الطريق لصياغة هذا العقد الاجتماعي يتم عبر وضع البنادق جانباً الآن ودون تأخير والنأي عن الظن بامكانية اخضاع طرف لأي طرف آخر، والجلوس لتفاوض سلمي يقود لسلام مستدام على أسس حقيقية تخاطب خطايا الماضي والحاضر وتبني مستقبلاً مزدهراً لبلادنا التي نحب.