بدون زعل
عبد الحفيظ مريود يكتب.. مرايا الوهم
فى شهرها الأول، علق د. عمار السجاد، “القيادى الاسلامى”، ضمن حوارات عجلى، حين بدا أن هزيمة الدعم السريع ليست وشيكة :” نحنا ممكن نسلح قبائل الزرقة، فنقلب المعادلة”. لكن الحرب مضت عكس ما تشتهي سفن الإسلاميين. الشيئ الذى اضطرهم إلى تسليح الحركات الدارفورية والدفع بها إلى أتون الحرب..ومرة أخرى ضمن حوارات واتسابية، يعلق عمار السجاد، ردا على ملاحظات دقيقة بأننا (ممكن نعقد مصالحات بين العرب والزرقة…عن استحقاق…نحن أهل النيل وهم أهل صحراء…نحن أهل حضارة). الأمانة تقضى أن أشير إلى أن الجملة بين القوسين عبارة عن ثلاث جمل هى ردود من الدكتور السجاد، وهى متتالية، تشكل جملة واحدة. جرى ذلك ضمن حوارات فى أحد قروبات “المشاهير” من “نجوم المجتمع”.
شايف كيف؟
على الأرض، تقول الحقائق إن د. عمار السجاد ينتمى إلى مجموعة عرقية تسمى “العبابسة”. ينتهون بنسبهم إلى العباس. وتقول رواياتهم إنهم قدموا إلى السودان لتعليم القرءان وعلوم الدين. نزلوا فى أرض الرباطاب بنهر النيل، تزاوجوا معهم. لكن عمودية الرباطاب تحصر نشاطاتهم وتقيدها لكونهم ضيوفا، لا “أصحاب أرض”..بحيث لا يسمح لهم بحفر بئر فى أرض الرباطاب إلا بإذن من عمودية “أب حجل”..وفى ثقافة “تمليك الأرض”، ثمة دار للجعليين، الميرافاب، الرباطاب، المناصير، فى ولاية نهر النيل. ليس ثمة “دار للعبابسة”.
ضمن نشاط “القيادى الإسلامى” د. عمار السجاد الفيسبوكى، أتى غير ما مرة على “أنهم أهل حضارة”، وبالتالي حقيقون بالحكم والتصرف، وهما أليق بهم من غيرهم. ولأن نشاطه الإسفيرى زائد (أحيانا يثير الشفقة)، فإنه يخبط عشواء.
فى المرآة، حين يقف السجاد فإنه – بلا شك – ينسى موقعه “الحقيقى” على الأرض، فى نهر النيل. ينسى تأريخه الطارئ. ينظر إلى شخص آخر، له اساهاماته الراسخة فى بناء الأهرامات فى البجراوية، مروى، البركل. يرى أن أجداده هم من شاد المعابد، وبنى الكنائس. أكثر من ذلك: يرى أنه من علم الأتراك حين دخلوا السودان كيف يحكمون. وأسهم مع الإنجليز فى كل تفصيلة من تفاصيل حكمهم، أيضا.
شايف كيف؟
فى رحلته القاتلة، تطرأ تغيرات على “الوهم”، الفردى والجمعى. قد يتعملق لدى الفرد حتى يصل إلى مرحلة (أنا ربكم الأعلى). ولدى الجماعة حتى يصل إلى (نحن أبناء الله وأحباؤه). ودون ذلك تتفاوت درجات الوهم. لا ينفك الآدمي عن أوهامه إلا بالتسديد الإلهى والمعرفة الصلبة. يبيع ويشترى فى سوق الأوهام ما شاء له جهله.
العسكرى الجنوبسودانى فى “أويل”، وراء المكتب الرسمى نظر فى مرآة معتمة، وقدم لى نصائح. فى تماهى العقل مع لحظة الوهم، ينسى أن حدود مسؤوليته هى أن ينظر فيما إذا كنت دخلت بلاده وفقا للإجراءات المطلوبة، وما إذا كان دخولى يشكل خطرا على بلاده بأى وجه من الوجوه. وينسى شيئا غاية فى الأهمية : أن وضعه الراهن، هو حصاد خمسين عاما من الحروب ضد “قوات الشعب المسلحة” التى ينصحني بالوقوف خلفها، لا “مليشيا الدعم السريع”. فالوقوف خلف “قوات الشعب المسلحة” كخيار حتمى، ينسف تربيزته، دولته، استقلاله، وأى مفخرة قد يفاخر بها، فى موضع آخر. لكنه – ههنا – ينظر إلى أنه الجيش الشعبى، جيش جنوب السودان الرسمى، يتوهم وضعا مماثلا لما يجرى فى السودان: لو أن قوات رياك مشار، مثلا، أو قوات الاستوائية الكبرى، دخلت فى حرب ضد (الجيش الرسمى)، فإن “مصالحه” تقضى بالوقوف الحتمى إلى جانب الجيش. لا يتصور أن أمرا أكثر منطقية، أكثر إلزامية، قد يدفعه إلى الوقوف ضد الجيش. فالوقوف مع الجيش الرسمى قرار سهل. غير مكلف. لذلك لن يفهم ذاك العسكرى الجنوبسودانى جون قرنق، أبدا.
شايف كيف؟
يتورط مالك عقار فيما هو أخطر. مراياه متعاكسة. فى شيخوخته الرثة، يصرح:” أنا قاتلت الجيش السودانى 40 عاما، ولم أهزمه…هذا الجيش لا يهزم”..” لا يوجد شيئ اسمو دولة 56…دا وهم ساكت”. والكثير من التصريحات المترعة بالبؤس. على أن أكثرها بؤسا هو ذلك الخطاب الذى وجهه إلى “ناس سنار” أو ” ناس الدمازين”، أو الاثنين معا، والذى مفاده هو أن ( ناس الدعم السريع ديل ما بشر زيكم…بتجروا منهم ليه؟ يخشوا مدنى تجروا سنار..أها لو خشوا سنار ح تجروا الدمازين، ويمكن تخشوا الحبشة زاتو).
حسنا….
عقار انتهى إلى قائد لفصيل لا يملك أن يقدم له ما يسد الرمق، ولا ما يدفعه لمواصلة قتال الجيش السودانى لعشر دقائق. الفكرة كانت ” السودان الجديد”، مشروع جون قرنق. مضت غيوم جون قرنق، وجنوب السودان فتشرد عقار. ينظر فى مراياه، وهو على أعتاب القبر، فيجد أنه يحتاج إلى أوهام جديدة، أوهام بديلة. تقضى رحلة استبدال الأوهام بنسف أربعين عاما. وكما قال السيد حسن نصر الله، حين اتهمت السعودية حزب الله بأنه وراء صواريخ الحوثيين وتطويرهم لأسلحتهم (عم يقسيوا على روحهم…لأنهم يعجزون عن وضع ثقب على الإبرة، يظنون أن الجميع يعجز عن ذلك). وهم السيد عقار هو (عجز الآخرين عن هزيمة الجيش السودانى)، لعجزه هو، شخصيا…لكنه لم يفهم قط لماذا يهرب الجميع من الدعم السريع؟ المقصود هنا – كما أتصور – هروب جيش الجزيرة، وجيوش أخرى، على ما أظن.
شايف كيف؟
لكن أكبر الأوهام، إطلاقا، هو وهم ” الحفاظ على الدولة”. وهو وهم المثقفين الأفذاذ، الأكاديميين المنضبطين منهجيا. أن نقف مع الجيش حفاظا على الدولة، حتى ولو كلف ذلك امتداد الحرب لثلاثين عاما، أو كلف موت نصف السكان.
ماذا نريد بالدولة؟ ما هى الدولة؟
حسنا…
فى غير وقت الحرب، تتسابق أقلام وحلاقيم الأكاديميين والمثقفين فى تبيان حقيقة الكائن الشائه، المخلقن، الكسيح المسمى ب “الدولة السودانية” الموروث عن الإنجليز. عن عجزه البنيوى عن تفتيق ثراء إنسان السودان، إدارة موارده وتنوعه..عن ضرورة التغيير ووضع أسس جديدة وتعاقدات بكر، تتناسب ومقدراته…لكن حين نشبت الحرب، تشبث أكثرهم بالأرض الصغيرة الخضراء التى يقف عليها. حاكورته التى تدر عليه قوت يومه.
لكن الحرب – مثل الحب – لا تأخذ منك إذنا…لا تمنحك فرصة أن ترتب أوضاعك الداخلية…تخرج أسوأ ما فيك، تماما. قليلون من يصمدون حتى تضع أوزارها، دون تبديل للأوهام.
الدولة التى يجب الحفاظ عليها هى تلك التى لا تعرف، على وجه اليقين، تعداد سكانها. لا تعرف تفاصيل حياتهم…لا تفكر أن توفر لهم وسائل الحياة الضرورية…لا تعرف كم عدد الأطفال خارج سلك التعليم لعشرين عاما خلت..أو أكثر.
مثل هذا الكائن المسخ، المعولق، سيسعى للحفاظ عليه أصحاب المصالح المرتبطة ببقائه..أصحاب الأوهام الكبرى والمرايا الخادعة، التى تظهرك على غير حقيقتك..
شايف كيف؟
أن تكون فى أرض لا تملك أن تحفر فيها بئرا، وتتصور أن فى مقدورك أن تصيغ مستقبل وأقدار الآخرين، عبر استغفالهم واللعب على تناقضاتهم…
لكن، بمثلما لازم العجز الكثيرين عن “فهم التغيير”، حسب عبارة المحبوب عبد السلام، فى مقاله الشهير، عقب ثورة ديسمبر..سيلازم الكثيرين عجز مثله عن “فهم الحرب”..
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.