الفوضى الأمريكية، والمتأسلمون..
علي يس يكتب.. الفوضى الأمريكية، والمتأسلمون..
ليس محلاً للتساؤل علاقة ما يجري اليوم بالسودان بالسياسة الأمريكية المعتمدة منذ مطلع هذا القرن للتعامل مع الشأن الخارجي، لا سيّما الشرق أوسطي والشمال أفريقي، وأعني بالطبع سياسة (الفوضى الخلاّقة – creative chaos أو – بمصطلح آخر، (الفوضى البناءة – constructive chaos وهي السياسة التي توفّر على تخطيط هياكلها واقتراح أدواتها وتثبيت عُراها – وتحت إشراف مباشر من إدارة المخابرات المركزية الأمريكية – كوكبة من أخطر العلماء في مجالات علوم الاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد ومجالات أخرى عديدة. والميزة الأساسية في هذه السياسة هي (جدواها الاقتصادية) حيث تمكن مصممو هذه السياسة من استبدال العبء الاقتصادي “البشري والعسكري واللوجستي” بمجرد العبء العقلي – الفكري، وذلك باستخدام العدو نفسه في تدمير ذاته، عن طريق “السيطرة عن بُعد” تارة، وتارة أخرى عن طريق “العملاء المحليين” ممن ينشدون مصالح ذاتية ضيقة مقابل بيع أوطانهم.
ولا يخفى على أحد أن الأمريكان، و قد حدَّدوا مسبقاً الطرف الداخلي القادر على إشعال فوضاهم الخلاقة في السودان، لم يجدوا أنفسهم بحاجة إلى استخدام السيطرة عن بعد، فقد وجدُوا أن المتأسلمين من عصابة المؤتمر الوطني جاهزين، دون دعوة، لتدمير الدولة السودانية، فكان الضوء الأمريكي الأخضر من المبعوث الأمريكي، ليلة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، إشارة البدء، و لم يبذل الأمريكان بعد ذلك جهداً أكثر من إقناع المتأسلمين بأن الفوضى “فوضاهم” وأن لهم أن يخوضوها بالشكل الذي يريدون ما دامت الأهداف متطابقة!!!..
ولكي نفهم بأكثر دقة ممكنة طريقة عمل (الفوضى الخلاّقة) علينا أن نتأمل “الحدوتة” الفرنسية التي شاعت خلال ذات الفترة التي اعتمدت فيها تلك السياسة الأمريكية الخبيثة، والتي تحكي أنه في أحد قطارات باريس كان يجلس على أربعة مقاعد متقابلة أربعة أشخاص، على الجانب الأيمن وفي مقعدين متجاورين كهل إنجليزي وعجوز فرنسية، يقابلهما على الجانب الأيمين فتاة فرنسية جميلة، وفتى فرنسي من النوع الذي يثير أعصاب الإنجليز. وفي اللحظة التي دخل فيها القطار نفقاً مظلماً، انقطعت الكهرباء في العربة فباتت في ظلام مطبق، وبعد لحظات، في ذلك الظلام الدامس، سُمِع صوت قُبلة حارّة، أعقبهُ صوت صفعة مدوِّية ..
حين خرج القطار من النفق و شمله الضوء، كان الفتى الفرنسي يقول في نفسه بحسرة: ظفر هذا العجوز الإنجليزي بالقبلة، ومُنيتُ أنا، لسوء حظي بصفعة الفتاة !!..
أما العجوز الفرنسية فقد كانت تحدث نفسها: “عفيت منها” هذه الفتاة المحترمة، لم تمكن هذا الفتى الوسيم من العبث معها!!..
أما الفتاة فكانت تحدث نفسها محتارة: هذا الفتى الغبي، يتركني أنا و يقبل هذه العجوز؟!!!!..
في اللحظة نفسها كان الكهل الإنجليزي يفرك يديه في سعادة وهو يخاطب نفسه: كنت سأموت غيظاً، لو لم أتمكن من صفع هذا الفتى الفرنسي المائع، بعد أن قبَّلتُ ظهر يدي!!..
أظن أن هذه الحكاية الصغيرة قد أوضحت بشكل جلي طريقة عمل سياسة الفوضى الخلاقة، ولكن قد يلتبس على الكثيرين التمييز بين (صانع) الفوضى وبين (منفذها).. الكهل الإنجليزي في هذه الحكاية ليس صانع الفوضى، بل هو مجرد منفذ تمت السيطرة عليه عن بعد، باستغلال بنائه النفسي ومشاعره تجاه الفتى الفرنسي. أما صانع الفوضى فهو من أعد مسرح الأحداث كاملاً: الذي اختار الركاب الأربعة ثم اختار لهم تلك العربة ومقاعدهم فيها، ثم فصل الكهرباء عن العربة في اللحظة المناسبة، ثم تنبأ بما سوف يحدث بناء على دراسة وافية للأشخاص، اجتماعيا واثنياً ونفسياً وتاريخياً وثقافياً.. ومع ذلك فإن صانع الفوضى داخل عربة القطار الفرنسي هو خارج دائرة الاتهام تماماً. تماماً كحال أمريكا تجاه ما يحدث في السودان!!..