منصور الصويم يكتب.. من تلك الجهة جاء هؤلاء… وأحرقوا السودان
محاولة للإجابة عن أصل الأزمة ومنبع الحروب
في ذكرى مرور عام على حرب السودان المأسوية، استحضرت بشكل عفوي مقولة للروائي الطيب صالح، أطلقها قبل سنوات، إبان العشرية الأولى لحكم الإسلاميين (1989 -2000). تلك المقولة، دون نقد أو تمحيص دقيق، تحولت إلى “مانيفستو” إدانة يرفعه كل شخص في وجه إسلاميي السودان، متى ما دخل معهم في محاججة أو متى ما تداول الناس الخراب الذي ألحقوه بالسودان في فترة حكمهم الطويل الممتدة لأكثر من ثلاثين عاما.
طرح الطيب صالح سؤاله عنوانا لمقال نشره في عموده الشهير، “نحو أفق بعيد”، الذي كان يداوم على نشره في مجلة “المجلة” اللندنية (1991). وبغض النظر عن محتوى المقال وعن إمكان وضع إجابة شافية عن سؤال كهذا، اكتفى الناس – معارضو حكم الإنقاذ وأعداء الإسلاميين- فقط بترديد الجملة الإشهارية (من أين جاء هؤلاء؟)، والركون السهل إلى إخراج الكيزان (الإسلاميين) ومن شايعهم من أنصار النظام خارج حظيرة السودانيين الشرفاء أبناء البلد، الذين من المستحيل أن يأتوا بمثل هذه الأفعال. فهل هذا صحيح؟
الحرب الكبرى
قبل اندلاع حرب السودان الكبرى في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023، شهد السودان مئات الحروب الداخلية وآلاف المعارك القبلية والجهوية. قتل أكثر من 300 ألف مواطن في حرب دارفور (2003 – 2018)، وقتل أكثر من مليون شخص في حرب الجنوب – أطول حروب قارة أفريقيا- التي انتهت بانفصال جزء كبير من السودان، فقدت البلاد على إثره موارد ضخمة. تكونت مئات الميليشيات والفصائل العسكرية المتمردة على الحكومة أو المساندة والمستولدة من الجيش الرسمي. لم تتوقف الحرب يوما في السودان منذ استقلاله في العام 1956، ولم يشارك الجيش الوطني منذ تلك اللحظة حتى الآن في أي حرب خارج حدود بلاده أو حتى دفاعا عن الحدود، بل أدار جميع حروبه العنيفة داخل البقعة المحصورة في ما يسمى بـ”أرض الوطن”.
اندلاع الحرب في الخرطوم – قبل عام من الآن – كان تتويجا منطقيا لكل تلك الحروب التي لم تكن تتوقف إلا لتندلع من جديد في دارفور غرب البلاد، وجبال النوبة في إقليم كردفان، وإقليم النيل الأزرق، وفي شرق السودان. أين يكمن الخطأ؟ ومن شكل تلك الجيوش التي لا حصر ولا عدد لها، ولأي هدف تشكلت في الأساس؟ من أوجد الجنرال حميدتي من العدم وصيّره أخطر قائد عسكري في قارة أفريقيا بأكملها؟ من أين حقا “تكوّن” هؤلاء؟ وجاؤوا؟
تركيب معقد
سيلحظ الناظر إلى التركيب الإثني لـ”شعب السودان”، ذلك العدد الكبير من القبائل والمجموعات السودانية المتنوعة والمختلفة من حيث التجذير الإثني والتقسيم الثقافي – اللغوي، وإلى حد ما الديني. يقطن السودان أكثر من 500 قبيلة تنتشر على امتداد رقعته الجغرافية الواسعة، وقد تشهد الولاية الواحدة من ولايات السودان الثماني عشرة تباينا تكوينيا كبيرا من حيث التوزيع السكاني، وربما نجد المثل الأكبر على هذا التباين والاختلاف في المجموع القبلي لإقليم دارفور، أكثر الإقاليم احتضانا للحروب القبلية وحروب الدولة. ففي دارفور، إلى جانب التقسيم الكبير الحاد (عرب وأفارقة)، سنجد داخل هاتين المجموعتين الكبريين تقسيمات قبلية أخرى أصغر داخل نطاق كل مجموعة منفردة، وهذه القبليات الصغرى تحمل في داخلها أيضا تناقضات واختلافات تضعها في حالة مواجهة دائمة مع نظيراتها، تنتفي وتضمحل حين المواجهة الكبرى (عرب ضد أفارقة). هذا الوضع المختل وغير المتحكَّم فيه في إقليم دارفور، سنجد أوضاعا مثيلة له في بقية الأقاليم السودانية مع اختلاف حدة المواجهة أو ركونها إلى سكون بركاني لفترات طويلة، مرشح للانفجار تحت أي لحظة. هذه البنية القبلية الصراعية ظلت على الدوام محفزا أول لإشعال فتيلة الحروب السودانية، وسنلحظ – بعد التحليل – أنها شكلت الثقل الرئيس في الحرب الدائرة حاليا.
في ورقته المهمة، “مقدمات في دراسة العقل السياسي السوداني”، يعرف الدكتور أحمد يعقوب القبيلة بأنها “تنظيم مغلق يستقبل الأفراد لكنه لا يقبل الخروج منهم، بما يعني أنها في نشأتها وتكوينها لا تستطيع أن تستوعب إلا شكلا واحدا ونوعا واحدا من الأعضاء”، فـ”قرارات القبيلة تمسّ الأفراد المنتمين إليها ولا تسري على أفراد خارج نطاقها الإثني”، والقبيلة، قبل تحكم الدولة، كانت تخضع كل شيء لنظام قوتها وحكمها الخاص، أما في وقتنا الحاضر فـ”لا يولد هذا الخيار (القوة) لديها إلا الحقد السياسي والعنف الذي يطال المؤسسات الدستورية والسياسية والأفراد في كثير من الأحيان”. ما الذي فعلته الدولة السودانية بالإرث القبلي العظيم بعد تحررها من سلطة الاستعمار؟
بدلا من تفكيك النظام القبلي في شكله التقليدي المغلق لصالح دولة المواطنة والحقوق المتساوية، عمدت الدولة السودانية منذ نشأتها الأولى إلى الحفاظ على هذا الإرث كما هو، وتعمّدت تطويقه وحصاره دوما بما تمتلكه من أدوات سيطرة (العنف، السلطة، الثروة)، واستخدمته على مر الحقب وسيلة تلاعب سياسي، بظنّ خلق حالة من الاستمرارية والديمومة لهذه الدولة المتضعضة تضمن لها بقاء أبديا.
هذا الاستخدام الخبيث للبنية القبلية، يتضح على نحو جليّ إذا حاولنا إلقاء نظرة فاحصة على بؤر الصراع المتجددة الالتهاب في أطراف السودان وهوامشه. الموارد قد تكون سببا رئيسا لحروب منطقة مثل دارفور، لكن العامل الحاسم في استمرار هذه الحروب كان ولا يزال يكمن في التناقض القبلي الذي يخلخل هذا الإقليم، وقد لعبت الدولة دورا رئيسا في تعميقه، بانحيازها في فترة من فترات النزاع إلى جهة ما على حساب جهة أخرى، وهذا في إطار التقسيم الأوسع لسكان الإقليم (عرب وأفارقة).
الدولة متواطئة مع القبيلة، فقد تمكنت من إخضاع الفرد داخل أطرها المغلقة، وتحولت محاولات التمرد على هذه الأطر ضربا من العبث. لذا سنلحظ، حين اشتعلت الحرب الأخيرة، أن الجميع دون استثناء نفضوا غلالة الوعي الرقيقة التي كانت تخفي تعصبهم وتكلسهم وتذكروا في حنين جارف مضارب القبيلة.
صورة المحارب
في الشمال النيلي يبدو للمراقب من الوهلة الأولى أن صوت القبيلة خافت وأن الدولة في شكلها الحضري الحديث هي الأكثر حضورا. لكن هذه رؤية ظاهرية مخادعة ساهم في وجودها خروج هذه المنطقة من دائرة النزاعات القبيلة العنيفة والتعايش المتماهي بين مجموعاتها السكانية المختلفة، وانتفاء عاملين رئيسين للصراع العنيف، أشرنا إليهما ونحن نتحدث عن إقليم دارفور. هذان العاملان هما التقسيم الإثني الكبير (عرب وأفارقة) وصراع الموارد الدائر بين المزارعين المستقرين والرعاة المتجولين في دارفور، بينما في هذه المنطقة – النهرية – استقر الجميع منذ أوقات طويلة، كما لا تشهد المنطقة بعكس دارفور تواترا أو تواصلا للهجرات السكانية داخليا أو من خارج الحدود، مثل حالة العرب البدو في دارفور.
هذه الاختلافات قد توحي ظاهريا بموت سلطة القبيلة شمالا عند النهر، لكن حين الاقتراب أكثر من ثقافة المنطقة والنظر بتمعن إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية ورؤيتها للآخر، سنكتشف أن الحس القبلي متجذر بالقوة ذاتها، تعكسه مرآة النظرة المتعالية تجاه الآخر البعيد (عرب وأفارقة، تمدن وريف، حضر وبدو)، كما تعكسه بشكل أعمق الثقافة المحلية التي تتبنى العنف مظهرا للتعريف وتأكيد الاختلاف عن الآخر المقهور والمهزوم.
مثلما عجزت الدولة عن تغيير هذه الوضعية المختلة في إقليم دارفور والأقاليم المشابهة، أو تواطأت في إطالتها، نجدها فشلت هنا أيضا في كسر النموذج القبلي المستلف من التاريخ الغابر، الأمر الذي حول الفرد – متمدنا وبدويا، مستنيرا وجاهلا – إلى سجين داخل القوقعة القبلية المحكمة؛ شخص بقناع حضاري مخادع يخفي وراءه وحشا قبليا متحفزا في انتظار إشارة الحرب.
خطاب الكراهية
يمكننا استخدام “خطاب الكراهية” في مختلف مستوياته كمؤشر دال على “الحرب المختزنة” داخل “العقل السوداني” طوال سنوات ما بعد الاستقلال، وكمعرف واضح وجلي على التنافر والاستقطاب الحاد بين المجموعات السودانية المختلفة، وكناتج طبيعي لحالة “الانغلاق القبلي” العام الذي تتصف به الحالة السودانية في عمومها، دون اختلاف على مستوى الإبانة والإخفاء بحسب التموقع المكاني (حضري – بدوي). وربما أبرز المظاهر الأولية المولدة لـ”خطاب الكراهية” المغذي للحروب السودانية، والمنذر بتحول الحرب الحالية إلى حرب شاملة، هو ما يمكن رصده في الثقافة المحلية المخصصة لكل جماعة من المجموعات السودانية الكبيرة، وهنا سأتوقف عند مجموعتين هما المظهر الأبرز للنزاع الحالي. المجموعة الأولى هي مجموعة النيليين – الشماليين أو المجموعة التي تعرف بـ”قبائل الجعليين الكبرى”. هذه المجموعة، على الرغم من التنوع الداخلي الكبير الذي يسمها، حظيت بفترة استقرار طويلة في ظل الدولة الحديثة، بما يوحي أنها تمدنت وتحضرت تماما، مخلفة وراءها حروب التناحر القديمة في أضابير التاريخ البعيد (مملكة سنار، العنج، الفونج، التركية والمهدية)، لكن بالنظر إلى المحمول الثقافي لهذه المجموعة، سنجد أن العنف بصورته الأولية البدائية لا يزال كامنا ومهددا بـ”إفناء الآخر” ولو ثقافيا (شعريا وغنائيا ورمزيا)، كما يتمظهر في سلوكيات ضاربة في العمق المجتمعي مثل الضرب بالسياط أثناء الأعراس (البطان)، وفيه يحدث إيلام للجسد إلى درجة الإدماء لإظهار فروسية وشجاعة الفرد المنتمي إلى هذه المجموعة. تتميز هذه المجموعة ثقافيا أيضا بتراث شعري – غنائي موغل في الاعتداد بالنفس (القبيلة) والدعوة إلى القتال وتحدي الموت واستدعاء كل شروط الفروسية في شكلها المتوحش المتحدّي للآخر والرافض وجوده. في الجانب الآخر (المجموعة البدوية)، سنلحظ أنه من السهل رصد مظاهر العنف المبنية على الصوت القبلي الأوحد، الشجاع المتعالي على الآخر، الذي لا يعترف بصوتٍ خلافه. وبعكس المجموعة الأولى التي تحول العنف لديها إلى حالة ثقافية مجمدة تننظر لحظة الفقس، وجد العنف البدوي متنفسه في الحروب الكثيرة التي خاضتها هذه المجموعة في مناطق متعددة من السودان، بتحريض ودفع مباشرين من الدولة السودانية، التي لم ترَ في هذه المجموعة، بعكس الأولى، سوى أداة لمحاربة خصومها واللعب على تناقضات الحالة السودانية عامة.
أبرز مظاهر “خطاب الكراهية” الكامن والمتجدد لدى هذه المجموعة، نجده متجسدا في القالبين الشعري والغنائي لدى ما يعرف بـ”الحكامة” شاعرة الحماسة والمغنية الشعبية، و”الهداي” شاعر الحروب والمغني الشعبي، والاثنان يشتغلان بحساسية عالية في منطقة الفخر، والفروسية، وفداء النفس مقابل سلامة القبيلة ونسائها ومضاربها.
ما حدث بعد اندلاع الحرب الأخيرة، هو لجوء كل من طرفي النزاع في صورتيهما المجتمعية الأولية، إلى هذا الموروث الثقافي الجاهز، لتستخدمه كل مجموعة وفقا لخطاب كراهية يهدّد بتحويل هذه الحرب إلى حرب أهلية شاملة لا تقل فظاعة عن الحرب الرواندية (1990 -1994). فالدعوة إلى دولة “البحر والنهر”، مفصولة عن باقي السودان، والدعوة إلى القضاء على “دولة 56” – المقصود مواربة جهة النهر – والتهديد بغزو مدن بعينها شمالا، “الشريط النيلي”، والدعوة إلى القضاء على “عرب الشتات” غربا، ما هي في النهاية إلا مظاهر للمجتمع القبلي العدائي الذي يصف الحالة السودانية في مجملها.
كم لبثنا
تقول التقارير الرسمية للمنظمات الأممية إن حرب السودان الكبرى منذ اندلاعها في الخامس عشر من أبريل 2023، أدّت – بعد مرور عام كامل على اندلاعها – إلى مقتل أكثر من 15 ألف مواطن سوداني، وتسببت في أكبر عملية نزوح داخلي في العالم، فأكثر من 8 ملايين سوداني أصبحوا إما لاجئين أو نازحين، تحت ظل ظروف ضاغطة وغير محتملة.
كما تؤكد التقارير الأممية نفسها أن السودانيين داخل مناطق النزاع، إلى جانب حصارهم وقتلهم بالرصاص والقنابل، باتوا مهدّدين بالموت جوعا، فهناك أكثر من 25 مليون سوداني يواجهون خطر الجوع الحاد.
ما الذي يريده قادة الفصيلين المتقاتلين من السودان؟ ما الذي تسعى إليه الجهات الخارجية المتصارعة على جثة السودان؟
إذن، ليس “الكيزان” وحدهم، ولا القوات المسلحة السودانية وحدها، ولا قوات الدعم السريع وحدها، من تسبب في هذه الحرب المهلكة التي أعادت السودان قرونا إلى الوراء. تكمن المأساة في الكيان المسمّى الدولة، أو بالأحرى “الغولة السودانية” كما وصفها ثوار ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة.
هذا الكيان الشره، بكل طرائقه الخبيثة وارثة المستعمر، هو الذي أنتج كل هذا الخراب، وهو الذي ساهم في استمرار مؤسسة بائسة مثل “القبيلة” ورفعها لتكون أعلى أدواته في لعبة المخاتلة التي ظل يمارسها على مدار السنوات للسيطرة على الجميع، وقتل الجميع إن استدعى الأمر. نعم “دولة 56” ابنة المستعمر – بعيدا من ادعاءات الدعم السريع الكذوبة – هي تلك الجهة التي جاء منها كل هؤلاء، واحرقوا البلاد.
نقلا عن “المجلة”