كاد الترابي أن يجمع بينهما.. لكن الأيام لم تسعفه.. صعوبة الجمع ما بين الوطني والشعبي إلى ما يشبه الاستحالة ماثلة، وإن حُظيت تلك المُراتقة ومُحاولات الالتئام بأن يقوم بذمتها قائدٌ فذ مثل الشيخ الدكتور حسن الترابي.. ولطالما فكّر وقدّر خارج صناديقنا المُصمتة حتى إنه أخرجهم – الإخوان المسلمين – من إطارهم الضيِّق القديم و(مسكنتهم) المُتهادية وإهدائهم حركة حَقيقيّة لها من الكادر والأفكار والتأثير ما سارت به الركبان ومَضَت به الأخبار.
خبرة شيخ حسن وعبقريته ذات الرؤية الاستراتيجية تجلّت في تعامُله الفذ مع الأزمات، وقُدرته الباهرة على تجاوُز غباش الراهن.. وكان دوماً حاضراً ولا أظنّه خَذَلَ نفسه إلا في مَرّةٍ واحدةٍ يوم أن عَقَدَ أمر (المُفاصلة) وكتب بيده مصيراً مجهولاً لحركته، وخَطَا خطوته الأولى والشجاعة نحو الظلام!!
ظَلَمَ نفسه والأجيال وهو يُقاتل بشراسة الفارس، نظاماً صنعه بنفسه وأرسى دعائمه.. ظَلَمَ نفسه والأجيال وهو يقاتل بشراسة الفارس نظاماً صنعه بنفسه وأرسى دعائمه.. مُنفقاً وقتاً ثميناً في إنهاكه والإيلام.. حين قرّر المُفاصلة اصطف كثير من المُخلصين والأذكياء على قلتهم إلى جانب شيخ حسن، بينما مضى إلى القصر آخرون من دُونهم والتهم الرصيف البقية.. وبالطبع كانت تلك فرصة لا تُعوّض وسانحة مجنونة لقِوى انتهازية أُخرى كَانت قَريبة من أجهزة الحركة ومُؤسّساتها لم يأذن لها سابقاً بالحلول والاتّحاد لأسبابٍ مُتعدِّدةٍ يشرحها وصفنا لها بالانتهازبة، ثم إن صف الأذكياء الطويل الذي كان قادراً على الانتخاب والتفريخ حجبها.
انتهزوا الفرصة وتمسّكوا حتى القتال بهدية المُفاصلة.. وانتشروا في تَشكيلٍ حَصينٍ في ضد أو تماهٍ مع صفوف المفاصلة الثلاثة، وأوكل الأمر كله إلى غير أهله.
لولا المُفاصلة لما تقدّم أحدهم شبراً مُتخطياً تلك التراتبية ذات التصنيف الذهبي، والتي تعرف عن وعي كيف تُحسِّن أداء انشغالاتها وبمن.
بدأ من هنا فعلاً حكم الإسلاميين في الانحسار وشخصاياتهم القيادية في الانزواء.. حتى إن كلمة (كوز) كانت مُدعاة للتقريع داخل مُؤسّسات الاختيار والترقي.
أكلت الثورة أبوها فعادت بلا غطاءٍ أخلاقي، وأصبحت بلا بوصلة ولا هدي.. فجأةً تحوّلت من حركةٍ حقيقيّةٍ تجادل الأسباب والحوادث إلى (فرقة حسب الله) بلا نوتة أو مزاجٍ أو موهبةٍ.. حتى الأذكياء وأصحاب الرأي من الذين تَمترَسُوا خلف البشير بمَظَانٍ عدة اصطدموا بروح الاستبداد المُستجدة ورُوح القطيع السّائدة، فتضعضعت هِمّتهم وتناقص أداؤهم بعد أن صاروا تُبّعاً لاتّجاهات ميل القائد، ليس مطلوباً منهم أن يروا إِلا مَا يرى.
رأي الشيخ أن الوقت قد حان لإبدال المشهد بعد أن أرهق النظام حفراً و(تغريقاً) وأضعفه وفَعَلَ به من الأفاعيل ما جعله (يصعب على الكافر)، كما أنّ الخراب الذي جرّه على كامل المشهد جسيمٌ ومُتعدٍ.. لكن الوقت فعلاً قد فَاتَ.. تأخّر الشيخ كثيراً في لملمة جراحاته ولملمة العقد المُنفرط.. فقد أفرط الطرفان وفجرا في الخُصُومة، ولم يعد مُمكناً أن يلتقيا مُجَدّدَاً، حتى إنّني يوم أن رشحت التسريبات حول لقاءات سرية بين الترابي والبشير عمدت إلى نقلها لأحد القيادات الشعبية النشطة لاختبار جدوى وفاعلية تلك المُقاربات.. ولم يخيّب الرجل ظني، فقد أسقط في يده وكأنّ شيئاً مهولاً وفظيعاً قد حَدَثَ.. أرعد وأزبد واتّهمني بالافتراء ثُمّ هرول كالمجنون إلى المنشية!!
التقيته بعد شهورٍ، وبعد أن انساب الأمر وتكوّنت اللجان.. فحكى لي أنّ شيخ حسن طلب منه أن يُتابع بعض الملفات مع علي عثمان، فقال صاحبي:
(والله علي عثمان دا إلا تتبالوا بيهو براكم)، في إشارةٍ لرفضه مُجرّد مُقابلة علي عثمان.. حدّثني صاحبي أنّ الترابي الذي كان متكئاً فجلس مُستشاطاً غضباً وهو يقول رادّاً: (إنتو دينكم دا وديتوهو وين؟!)…