هنا أم درمان.. صدى السلطة المركزية وترويض الهويات.!!
عمار نجم الدين يكتب.. هنا أم درمان.. صدى السلطة المركزية وترويض الهويات.!!
في أقاصي المشهد الإعلامي السوداني، تقف إذاعة أم درمان كصرح يبث أمواجه الثقافية المترددة بين جدران النخب المركزية. ليست مجرد محطة إذاعية، بل هي منبر يعكس صوت الدولة المركزية الساعية لتشكيل وعي الجماهير وصياغة هويتهم الثقافية وفق مقاسات محددة مسبقًا.
لطالما ارتبطت إذاعة أم درمان بالسلطة المركزية، تلك القوة القابضة على مقاليد الثقافة والإعلام و تضع محددات و معايير الهوية الوطنية والتي تروم من خلال هذا الذراع الإعلامي إلى ترويض الآخرين وإخضاعهم لسياستها الثقافية. إنها لم تكن يومًا مرآة تعكس تنوع السودان وغناه الثقافي، بل آلة مركزية بامتياز، تصدح بصوت العروبيين السودانيين، تلك النخبة التي تحتكر السلطة، وتفرض لغتها العربية الركيكة وثقافتها “المخجوجة” وألوانها المزيفة بالفسخ والجلخ لمذيعين ومذيعات لن يجدوا القبول إلا بالتبرؤ من ألوانهم ال( سودانية)) .
لا يُخفى على أحد أن السودان بلد متعدد الثقافات والهويات، غير أن إذاعة أم درمان ظلت تتجاهل هذا التنوع، مقصيةً كل من لم ينتمِ إلى الثقافة المركزية، إلا إذا قبل بإعادة إنتاج نفسه ثقافيًا لصالح العروبيين. كانت الإذاعة تعامل الآخرين كأنهم مجرد قطع زينة تُضاف إلى جيدها، لا يُعترف بقيمتهم الحقيقية إلا إذا انصهروا في بوتقة الثقافة المركزية، وقدموا فروض الطاعة والولاء لأبناء الوسط ونخبته.
إن إذاعة أم درمان، بحقيبتها الغنائية الهابطة، لطالما كانت المثل الأعلى للانتماء الثقافي الذي يُمليه المركز. أما الأصوات الأخرى، الأصيلة والمتنوعة، فقد أُخرست أو أُجبرت على التحول إلى همسات خجولة تُسمع فقط عندما تلتزم بالألحان التي تعزفها النخب الحاكمة. وبذلك، أصبحت الإذاعة رمزًا للتبعية والهيمنة الثقافية، وليست منصة للتعبير الحر أو التنوع الثقافي.
يُظهر هذا الواقع المؤسف كيف تم تحويل الإعلام، وبالأخص إذاعة أم درمان، إلى أداة فعالة لتدجين الهويات وتقليم أجنحة التنوع الثقافي في السودان. فعندما يتخلى الآخرون عن ملابسهم، وكلماتهم، ولغاتهم، ليتبنوا نمط الكلام والتفكير المقدم من الإذاعة، يصبحون في حقيقة الأمر مهزومين في هويتهم وتاريخهم. يتحولون إلى مجرد صدى للخطاب السائد الذي يُفرض عليهم، بدلاً من أن يكونوا مصدرًا للإبداع والتعبير الحقيقي عن أنفسهم.
إن الإعلام في أي دولة يجب أن يكون مرآة تعكس كل أشكال التنوع والثراء الثقافي فيها. يجب ألا يكون الإعلام سلاحًا لتوحيد الفكر وتجريف الهويات تحت مسمى الوحدة الوطنية الزائفة. يجب أن يتيح الفضاء الإعلامي مجالاً للتعددية والاختلاف، وأن يحتضن كل الأصوات بغض النظر عن مدى انسجامها مع الخط الثقافي الرسمي.
كان الواجب الأخلاقي والمهني يحتم على وسائل الإعلام، ومنها إذاعة أم درمان، أن تعيد النظر في سياساتها البرامجية والثقافية، بحيث تعكس الوجه الحقيقي للمجتمع السوداني بكل تلاوينه وتناقضاته. لكن اذاعة ام درمان و اخوانها كانت منصات للقمع الثقافي و إقصاء المغاير و احد اهم ادوات أدوات السيطرة والإقصاء.
لم أن تتضمن برامج الإذاعة أصواتاً من مختلف الأقاليم والمجموعات الثقافية، و لم تقدم محتوى يحتفي بالتنوع ويعزز الفهم المتبادل. لم تكن تلك الاذاعة المركزية ثقافتاً و هوية أن تكون إذاعة للجميع يوما او تنقل هموم وأحلام كل السودانيين، ظلت ميكروفوناً للقلة المهيمنة.
في النهاية، و ليست معبراً السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ظلت تلك الاذاعة تحقق للنخبة المركزية أهدافها عبر إسكات الأصوات المختلفة أو تجاهلها، و عدم الاعتراف بها إقصائها من القرار الثقافي والسياسي. لم تكن إذاعة أم درمان رمزاً للتغير إنما ورمزا. للثقافة المهيمنة لذلك نجد الاحتفاء بتحريرها من قبضة قوات الدعم السريع احتفالاً مقدساً لانها تمثل تراثهم وثقافتهم وهويتهم وفخرهم التاريخيّ الذي يرمز لسيادتهم منفردين لهذه الدولة منذ قبل الاستقلال احتفالهم بما يسمى بتحرير الاذاعة هو احتفال بعودة امتيازهم التاريخيّ العظيم اليهم و لكنها للآخرين تستمر كرمز لتاريخ من الهيمنة الثقافية والسياسية التي لم تخدم الواقع السوداني .
في ختام هذا المقال، يثير استغرابي ان بعض المثقفين بعد انتهاء المعركة العسكرية التي انتهت بهزيمة الدعم السريع أمس في الاذاعة، من مؤيدي التعدد الثقافي (الوحدة في ظل التعدد) وكانوا ضد المركزية الثقافية و الهوياتية المركزية إلى أنصار للدولة المركزية. يحتفلون الآن بتحرير أهم أدوات القمع التاريخية والموثقة لها، وأجد تعجبي من هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية عندما يحتفلون بتحرير رمز ليس وطنيًا ولا قوميًا، حيث يظل هذا الرمز شامخًا كتماثيل هُدمت في أوروبا وأمريكا، والتي كانت تمثل رموز العنصرية خلال الحملة التي اجتاحت القارتين الأمريكية و الاروبية بعد مقتل جورج فلويد.