أكثر من الملك..!

“شر النفاق هو ما داخلته أسباب الفضيلة، وشر المُنافقين قومٌ لم يستطيعوا أن يكونوا فُضلاء بالحق؛ فصاروا فُضلاء بشيءٍ جعلوه يشبه الحق”.. مصطفى صادق الرافعي..!

قَبل سَنواتٍ – وفي إطار قَناعتي المُطمئنة بأنّ قارئ هذه المساحة يمتلك حقاً أصيلاً في أن يكون لها أجر مُناولة شكواه – قُمتُ بنشر رسالة قارئ كان يتظلّم من تقصير إحدى الجهات الحكومية، فاتّصل بي مُمثلها الإعلامي طالباً عنوان بريد صاحب الرسالة بلهجة آمرة، تشبه أحاديث الوعيد، ذكّرتني بأجواء الويل والثبور..!

حدّثني الرجل عن حقوق التقاضي بشأن ما نُشر، فأخبرته أن لا مانع عندي للوقوف في وجه افتراء من تَسَوّل له نفسه ترويع الآمنين الأحرار!. بعد أن تَعاقبت بعض الفُصُول على أجواء تلك المُكالمة، وفي حَديثٍ مُباشرٍ مع المسؤول الذي كان يقوم على إدارة ذات الجهة الحكومية محل التقصير، علمتُ أنّ تهديد الرجل كان تذاكياً من بنات أفكاره، وفتحاً من فتوحات اجتهاداته الشخصية. فقد أخبرني ذات المسؤول أنه – ببساطة – لم يكن يعلم بأمر تلك المُكالمة، ولو عَلِمَ لنهاه عنها، لأنّه لا يقبل أبداً مثل تلك المُعالجات السّاذجة لمآزق إدارته مع الصحافة. أدركتُ حينها أنّ الرجل – وكعادة مُعظم المرؤوسين في بلادي – كان ملكياً أكثر من الملك..!

وكلّما ذكرت الملكية أكثر من الملك، قفزت إلى ذهني قناة العربية ومُعالجاتها الإعلامية – المُتحاملة – لقضايا السودان.. وانبثقت من ذاكرتي كتابات مديرها عبد الرحمن الراشد.. فعبد الرحمن الراشد وقناة العربية وجهان لعُملة الليبرالية السياسية المُتحاملة.. الرجل وقناته تجاوزوا حُدود دعم السلطة ومُباركة أمريكا لخط تناولهم المُستورد لقضايا العرب والمُسلمين.. فكان لا بُدّ من إيقافهم بعض الشيء..!

إنّها أساليب التلميع الإعلامي الغبية التي بُليت بها بلادنا. حيث مواريث النفاق والتزلف التي تزيد الطين بلّه، فتكبر صور الاحتجاج والتمرُّد عند الناس عِوضاً من أن تتضاءل. الإعلام المُوجّه لا يؤمن بأنّ قناعات الناس هي المضمار الحقيقي وليس قناعات الصحف والبرامج المصنوعة والمُوجّهة. الإعلام المُوجّه مثل الدب الغبي الذي هشم رأس صاحبه لكي يمنع عنه إزعاج ذبابة..!

فَالتّملُّق – خوفاً وطمعاً – كان سيد كل الاعتبارات في علاقة أيِّ مَرؤوسٍ برئيسه، ومن السائد جداً أن يتطوّر التّملُّق إلى اجتهاداتٍ شخصيةٍ طمعاً في المَزيد من رضاء الحكام بأمره..! 

قبل سُقُوط نظام “مبارك” نشرت صحيفة الأهرام المصرية صُوراً مُفبركة تظهر رئيس الجمهورية وهو يقود زعماء مُفاوضات السلام، هو في المُقدِّمة ومن خلفه الرئيس الأمريكي – حينها – “أوباما” وبقية الزعماء. كان ذلك نقلاً عن صُورة أصلية كان يظهر فيها الرئيس الأمريكي وهو يقود وفد المُفاوضات والجميع كانوا خلفه بطبيعة الحال..! 

تلك الفبركة السّاذجة كانت مَحط اهتمام وتناوُل قناة بانتشار السي. إن. إن، وصحف بحجم التلغراف والجارديان، والمؤكد أنه لو تم استئذان الرئيس مبارك نفسه في حينه، قبل التلاعب بالصورة لما ارتضى أن يكون محل سخرية العالم. لكنها تجاوزات الملكيين أكثر من الملك..!

أما في السودان فقد جرّب النظام السابق مثل تلك الحركات – كثيراً وطويلاً – وظَلّ مُعظم المسؤولين السابقين يباركون مُبادرات وانبراءات الإعلام المُوجّه. لكن تغيير النظام لا يعني أن تندثر مثل تلك السلوكيات الإعلامية بسهولة. أول وأولى مظاهر التغيير ينبغي أن تتنزل على أدواء الإعلام المُوجّه. حتى تعمل الحكومة القادمة في مناخ ديمقراطي مُعافى، وبمنأى عن حماقات الملكيين أكثر من الملك..!

منى أبو زيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى