بدون زعل
عبد الحفيظ مويود
إنت ما بتعرف صليحك من عدوك
الذى يجعل قلبى متعلقا بمدينة الفاشر كثير، شتى، متعاظم جدا..ليس هو المرأة فى حى “مكراكا” – وإن كان لا يخلو – المبهكنة العطبول..لكن الفاشر أكبر من امرأة..فاشر السلطان، وكدا..
وأهل الفاشر يعرفون الأستاذ جبريل عبد الله. أحد أهم أعمدة التربية والتعليم، وأحد أعمدة المدينة وشمال دارفور، عموما، عليه رحمة الله..الأستاذ جبريل عبد الله، وصل – من معلم ممسك بالطباشير سنين عددا – إلى وزير التربية بشمال دارفور، فوزير الشؤون الاجتماعية، وهو قيادى “إسلامى” بارز..كتب كتابا عن تاريخ مدينة الفاشر، كما نشر كتبا فى التربية والتعليم وبحوث محكمة…
أصغر أبناء الأستاذ جبريل عبد الله، مهند جبريل، تخرج فى جامعة الزعيم الأزهرى. درس الاقتصاد…ناشط فيسبوكى..ومنافح بضراوة عن الجيش السودانى، فى معركته ضد قوات الدعم السريع المتمردة..لا يألوا جهدا فى الدفاع عن المؤسسة ذات المائة عام…وعن الحفاظ على الدولة ضد المتغولين والمرتزقة المأفونين…
ولأن الوضع – أصلا، حتى قبل الحرب – لا يبشر بخير، لا يقدم فرصا للشباب الخريجين، فقد جازف مهند جبريل، وظف علاقاته وعلاقات إخوانه الأكبر، فحصل على عقد عمل فى الدوحة بقطر..جاءته الفيزا، التذكرة، فحزم حقائبه مسافر إلى بورتسودان، ليلحق بعمله فى الدوحة..لكن مهندا لم يصل..لم يرسل رسالة تفيد بركوبه الطائرة، أو هبوطه دوحة العرب..وهاتفه مغلق..
أشقاؤه – قلقا – بدأوا فى التحرى والاتصالات…بعد جهد جهيد وأرقام تحيل إلى أرقام..جاءت المعلومات أن مهند جبريل عبد الله معتقل – ومعه آخرون – بواسطة جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية..وبالمتابعة والاتصالات، تبين أنهم تسعة شباب، تم توجيه عدد من التهم إليهم أخفها “تقويض النظام الدستورى”..التسعة من عرب غرب السودان، دارفور تحديدا…فمهند أبوه من البنى هلبا وأمه رزيقية..وكذا البقية، كما كشفت التحريات…عرب دارفور..
أنت متهم لأنك تنتمى إلى القبيلة، فحسب..
شايف كيف؟
الاتصالات وصلت إلى عمدة التعايشة ببورتسودان، ليقدم شهادة تنقذ مستقبل الشاب، والشباب الذين معه..ليتضح أن عمدة التعايشة، هو الآخر، خرج لتوه من معتقلات الاستخبارات العسكرية..
حسنا…
هل هذه حادثة فردية، شاذة، لا “يقاس عليها”، كما يقول المنطق والفقهاء والمتكلمون؟
بعد الشهر الأول من اندلاع الحرب “العبثية”، انتبهت الاستخبارات العسكرية إلى أن الذين يخرجون إلى اثيوبيا، عبر معبر القلابات، أغلبهم من غرب السودان..وثمة معسكرات مفتوحة هناك، تتلقفك، وتنجز إجراءات تهجيرك إلى كندا، استراليا، ودولة أوربية بسرعة فائقة…غادر الكثيرون، عوائل وأفرادا، فقامت بمنع الخروج من جحيم السودان…الحجة التى كانت تقال للمغادرين من الشباب( انتو دعامة هاربين)..
شايف كيف؟
ثمة حكايات كثيرة، فى هذا المنحى..
ليست اعتباطية…كما أن الدعاوى والمطالبات الفيسبوكية بضرورة “التضييق” على قبائل بعينها، والتصنيف استنادا إلى القبيلة، ليس اعتباطيا..ثمة توجه مدروس…كنت قد أشرت اليه ههنا، وكتبته فى الصحف، قبل أكثر من 10 سنوات، بأن الداخلية تزمع تصنيف الجنسية السودانية والرقم الوطنى، إلى درجة أولى، ثانية وثالثة…وكان مشروع القانون يصنف درجة ثانية وثالثة (القبائل المشتركة والوافدة)..وسخرت – أيما سخرية، حينها – من أن قائمة القبائل المشتركة لم تشمل النوبيين الشماليين، مع أنهم مشتركون بيننا ومصر ، كما لم تشمل “المغاربة”، باعتبارهم (قبائل وافدة)…شملت – بالطبع – مطلق عرب دارفور، كما شملت البنى عامر والحباب…وتفننت فى ترتيب (الهوسا، الفلاتة، البرنو، القرعان، وغيرهم) ضمن القبائل الوافدة…
شايف كيف؟
ذلك مخطط قديم…
وهو الذى جعل سؤال القبيلة حاضرا فى كل محافلنا، وليس وليد هذه الحرب…ملمح رئيس من ملامح الإنقاذ الوطنى، أذكت ناره وجعلته فيصلا يقضى ويفتى فى أمرك، قبل الكفاءة والولاء..فلا غرو أن يتسيد تحقيقات الأمن والاستخبارات العسكرية، والحرب الدائرة الآن هى امتداد للإنقاذ، بعد ما استعادت السيطرة على الجيش ومؤسسات الحكم..
واجه ويواجه الكثيرون من أبناء غرب السودان، والقبائل العربية فى كردفان ودارفور، فى فترة الحرب هذه، صنوفا من التجريم والانتهاكات للحقوق المدنية، فى مناطق سيطرة الجيش..ويواجهون عنتا فى استخراج الوثائق أو تجديدها…وهو شيئ بالغ التأثير على مستقبل الحرب، ومستقبل السلام، ومستقبل هذه البلاد.
حسنا…
الذى لا شك فيه هو أن الوضع متأزم…
فى اجتماع دقيق وحساس، صرح د. نافع على نافع، نائب رئيس الحزب للشؤون السياسية والتنظيمية ( أى زول جاى من دارفور فيهو بذرة تمرد)..سأله البروفسور التجانى مصطفى، استاذ الانثربولوجيا بجامعة الخرطوم، والقيادى بالمؤتمر الوطنى، ووزير الدولة بالتعليم العالى (يا د. أى زول؟!)..مستغربا ومراجعا…فرد د. نافع، مؤكدا :” أيوا….أييى زول”…ولطالما وقفت فى مسألة (التمرد) هذه…لماذا ترى اختلافى معك، موقفى “الرئيوى” تمردا؟ لماذا أنت – دائما – الأصل، الحق، الصح، ومخالفتك تصبح “تمردا”؟
شايف؟
ذلك شبيه بموقف تعرض له صديقنا و ” أخونا” د. عبد الماجد هارون، حين وقع خلاف حاد بينه وزميلة لنا، حين تفاجأ فى اجتماع رأب الصدع، بأن الجميع يظن أن كونك من دارفور ” فأنت مهدد أمنى، بدرجة ما”…
والجميع يتذكر عبارة المحامى الشعبى الشهير بحق الأستاذ لقمان أحمد، مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، حين نقل حدثا “ثوريا” ضخما، مليونية(العب اب نخرين دا قال نفسو حاكم بالجد؟)…
شايف كيف يا عزيزى؟
الذين يهاجمون الآن، الآخرين، متهمين إياهم بالعنصرية، لا يعرفون أنهم غارقون فيها، تربية وجدانية، وثقافة مجتمعية متجذرة…
وبمثلما ليس كل اهل دارفور وكردفان عنصريين، و “دعامة”، فليس كل أهل الوسط والشمال عنصريين و “كيزان”…لكن ثمة جهة ما، تتحمل وزر تبنى الخط العنصري هذا، ترضعه، تغذيه، تؤسس عليه كل شيئ، بما فى ذلك المواطنة…
نحن مقبلون على خطر عظيم…أخطر من هذه الحرب الدائرة الآن…بما لا يقاس، فاعرف ذلك..