الويكة واستقلال القضاء
ثقالة دم فاجعة تبذلها بعض العناصر في (قحت) وهي تحاول فرض مرشحيها لسدة العدالة..
كلما أغلق عليهم باب عادوا من آخر، حتى إذا ما أوصدت عليهم وغلقت كل الابواب راودوا النوافذ والكوات.. في لزوجة عطنة ومساعٍ لا تختبئ مراميها ولا تندس.
داسوا على منصات التعقل واستدعوا كل الشياطين من أجل أن يطلقوا نفوذهم إلى هناك، غير عابئين ولا محترزين للمآلات القريبة جراء هذا الاجتراء غير المسبوق.. ولو كنا نستقبل نظاماً ديكتاتورياً لما حق لنا التعجب والاستغراب، فرغبة الطغاة في إذلال الناس، والتسلط عليهم، والقبض على مقاليد أمورهم قائمة من لدن (أنا ربكم الأعلى)، ولكَم بطشوا وأهدروا الحريات وهتكوا الحرمات، وحطوا من الكرامة، وبرغم ما كان بيدهم من أدوات الطغيان، إلا أنهم كانوا أضعف من أن يواجهوا القضاء العادل القوى الأمين..
ورغبة من هؤلاء الحكام في استسهال التحكم والاستبداد عمدوا إلى تجنب القضاء فاستصدروا الحصانات والمواد القانونية المانعة للتقاضي حتى أصبح منع التقاضي هو الأصل، تظاهروا بالاحتكام إلى القضاء بينما كانوا يقدمون المواطنين إلى غير قاضيهم الطبيعي بإنشاء محاكم استثنائية لا تضم أي عنصر قضائي!! ومارسوا التقليل من شأن القضاء ونزع ثقة المواطنين فيه بإهدار قدسيته وما يحاط به من إجلال ومهابة وتقدير منذ أن كان على الأرض قضاء…
القضاء على مذهب العهد الديمقراطي المدني الجديد ينبغي أن يرفض تعيين رئيس القضاء ليلاً، لأن ذلك يعني قضاء يساعد السلطة التنفيذية نهاراً على أن تتدخل في القضاء بطرق شتى مشروعة.
وشرعنة متسارعة انساق لها زملاؤنا.. فسقط في امتحان (استقلال القضاء) من سقط، ثلة من القانونيين المتميزين الذين حاولوا شرعنة التغول وحاولوا دفعنا للتساكن معها، كما وعن حق صمد آخرون في ميدان النبل والمصداقية، أحدهم كان أستاذنا النبيل (نبيل أديب) والذي احتفظ بضميره الصاحي وأبى أن يخوض مع الخائضين برغم موقفه السياسي الواضح المؤيد للتغيير..
فما انتوت أن تفعله بعض العناصر في (قحت) يعلم أديب مدى خطورته وجسامته، وكيف أنه يعيدنا إلى الوراء آلاف الفراسخ والأميال التي قطعناها بشق الأنفس ومُر الذكريات.
كان من المهم أن نرفض كقانونيين فكرة تسييس القضاء مهما كانت الدواعي والمبررات ودرء المفاسد أولى.
استقلال القضاء يعني فيما يعني الفصل بين سلطته وبقية السلطات، وألا يكون تابعاً أو مأموراً من أي جهة حتى ولو كانت تلك الجهة مبرأة من كل عيب… وسعينا لتحقيق الاستقلالية هو الضمان لتجنيبنا الحيف.. فلنترك عاطفتنا جانباً ولنطلب بكل خلجة ونبض أن يكون القضاء بلا تدخلات أو انحياز..
وصدقوني إن مضى الأمر على ما تتمنى تلك القوى فسيصبح السودان بلاداً غير صالحة للاستعمال الآدمي..
إن كان النظام السابق وباسم الإسلام-المفتري عليه- تغول على القضاء، فهاهم الآن وباسم الديمقراطية -المجهضة- يمارسون أفدح مما اغترف سابقوهم واقترفوا.
نريد أن تأتي العدالة نفسها أولاً بيدين نظيفتين، فلا يجب أن نستحضر الظلم والشبهات دون وجه حق وداعٍ إلى مقتبل افتتاحنا لعهدنا المدني الذي تهتف به قوى الحرية والتغيير ولا تسلك مسالكه.
نريد أن نجنب القضاء تلك المشقة وذلك الدرك الذي لا ميزان له والطريق الذي لا عودة منه.. لذا نرفض أي نفوذ من الحرية والتغيير على السلطة القضائية.. ومهما فعلوا وتجاسروا و(نططوا).. فتلك قيم مبدئية راسخة ومفاهيم تأسيسية لا حياد عنها، ثم أنها ليست (قطعة حلوى) نعطيها للناقمين والمحرشين من أولادنا لنسترضيهم بها حتى يكفوا عنا خروجهم والصراخ، وكل من ظن أن ذلك الاسترضاء (سيبرد أضانه) واهم وضعيف التفكير غرير.
التغرير بالجماهير أمر وارد الحدوث، ونزاعهم من المهم أن يبقى بعيدا من التفكير في أروقة وساحات المحاكم، ولا يصح أن يتأثر القضاء بكل تلك الصيحات والهتاف دعك من أن يشاركوا فيه.. ونزاع الجماهير الذي أسماه فولتير (جنون العامة) في فورته وسكونه لا تتحقق به بالضرورة فرص الجماهير نفسها في الحرية والسلام والعدالة.. إجلال الناس للقضاء مرتبط بفكرة كونهم لا يخالطون ولا يشتركون مع الأطراف في ذات التراشقات والمخاصمات والمحاصصة.. وإلا فما الضمانة لتحقيق العدالة حينما يعود الأطراف للاختصام أمام قاضيهم الطبيعي الذي آثر أن يتأثر ويخوض ويصبها…
(ما هو يا تلعب كورتك عديل يا تقيف حكم).
وأغلب الظن أن دعوات (الديربي) لاستجلاب حكام أجانب مصدرها الخوف المستحق من انحياز حكم الوسط لفريقه أو تأثره بأولتراس دون الآخر..
على يقين أن واحدة من أسوأ مخلفات النظام السابق أنه قطع ذلك الإرث المتصل وتلك السلالة النادرة من قضاتنا الأفذاذ الذين نفاخر بهم، من صانوا استقلال القضاء وأسسوا احترامه لدى الكافة برغم المنزلقات والتيارات والأنواء والانقلابات.. فجاء من خلفهم خلف أضاعوا الرتاج واتبعوا المواكب والمظاهرات، قضاة كالعامة وعامة نصبوا أنفسهم قضاة!!.
تسعى كل قوانين الدنيا إلى إبعاد القضاء من الوقوع تحت تأثير الرأي العام، لذا يحظر على قضاته التقرب إليه بوسائل تحط من كرامته وتزري به، فكيف بنا ونحن نستسهل أمر مشاركتهم في المواكب والمظاهرات ومن ثم نعيده كمقياس رسم وضابط لرؤيتنا المستشرفة لقضاء عادل نزيه وشفاف، واقتراح مبذول لكل الذين خرجوا في موسمهم الجنوني ولمصلحة العافية وتمام الصحة في ردهات العدالة، أن نجعل أمر نزقهم والخروج فعلاً استثنائياً يمكن التغاضي عنه ونسيانه دون اعتذار.