الإسلاميون في السودان يرفضون مصير إخوانهم في مصر وتونس
جهوزية داعش والقاعدة في السودان تربك حسابات الصراع المسلح.
الإخوان يعرقلون عملية السلام
يبدو أن السودان يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إنقاذ نفسه وشعبه من الثالوث الإرهابي (الإخوان وداعش والقاعدة)، والذي تجمعه مصالح وأهداف مشتركة، بدءا من التوصل إلى اتفاق بوقف إطلاق النار والبدء في تسوية سياسية مثمرة تنأى به عن مخططات الإسلاميين الذين يظهرون رفضا مستميتا للوقوع في المصير نفسه الذي لقيه إخوانهم في المنطقة العربية.
تُخفي القراءة المختزلة للتطورات بالسودان عبر التركيز على سردية اندلاع مواجهات بين قوات عسكرية نافذة، تفكيكًا هو الأخطر على مستقبل البلاد، ويتعلق بطبيعة الصراع وهوية الجهات التي تدفع عن قصد أو دونه إلى تكريس الاحتراب الأهلي وزيادة مساحة الفوضى.
ومع دخول الصراع مراحل متقدمة تكاتفت ثلاثة كيانات متطرفة هي: الإخوان وداعش والقاعدة، في التصورات والأهداف، ليس لعرقلة المسار باتجاه تسوية تقود إلى حكم مدني تشاركي فحسب، وإنما لتفكيك السودان وتمزيق أوصاله بعدما تيقنت تلك التنظيمات أن هذا هو الخيار الوحيد لتبقى وتقوى.
وكشفت بعض المواقف والتصريحات حقيقة ما جرى التمهيد له من قبل جماعة الإخوان التي أدرك قادة تنظيمها الدولي أن لا عودة مجددًا إلا بإشعال فتنة أو حرب أهلية، وأنها خاسرة لا محالة إذا وقفت مكتوفة الأيدي أمام التغيير السياسي المعبر عن إرادة الجماهير في تجاوز حقبة الجماعة القاتمة وفتح المجال لإصلاحات شاملة وإن كانت تدريجية.
وتلت دعوة راشد الغنوشي المبطنة في تونس إلى حرب أهلية دعوة أخرى للقيادي الإخواني السوداني الهارب في تركيا عبدالحي يوسف، حرّض فيها عبر فيديو تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي (السبت 27 أبريل) على قتل سياسيين وقادة أحزاب من الداعمين للاتفاق الإطاري.
ووجد الغنوشي من يفرمل دعوته في مهدها ويخمد نيران الفتنة، بينما تحظى فتاوى يوسف بمن يقبل ترجمتها على الأرض، حيث أثبتت جماعة الإخوان في السودان أنها أكثر قدرة من غيرها، في كل من مصر وتونس، من أفرع التنظيم الدولي على إعاقة المرحلة الانتقالية والدفع باتجاه الفوضى والاحتراب لتكريس حضورها وحماية مكتسباتها.
ظاهرة واحدة
الأوضاع الحالية في السودان تمثل حافزًا قويًا لتقدم تنظيم داعش، حيث يطمع في التمركز داخل موقع جيوسياسي مهم
جمعت بين أفرع الإخوان ظاهرة واحدة عقب عزل الجماعة عن السلطة في ظروف مختلفة، هي الرفض الشعبي وعدم القدرة على العودة إلى الحكم بالوسائل الطبيعية، لكنها تفاوتت في نسب امتلاكها لأدوات خشنة تمكنها من تعطيل الانتقال وإيقاف المسار الجديد أو تتيح لها قلب المشهد رأسًا على عقب، تمهيدًا لإعلان مرحلة العودة النهائية.
ورفض فرع الإخوان في السودان الوقوع في مصير أفرع الجماعة الأخرى والرضا بالاستسلام أو الطرد المُذِل بعد أن مكثت الجماعة في السلطة ثلاثين عاما متواصلة، وكأن هذا الفرع يريد أن يكون بوابة استعادة الإسلاميين للسلطة بجعل السودان مركز قوة إقليمي للإسلام السياسي وحلفائه المنتمين لتنظيمي القاعدة وداعش.
ويجسد عبدالحي يوسف ميزات الفرع السوداني عن غيره، فالتحالف بينه وبين الجهادية السلفية (داعش والقاعدة) أوثق وأوضح، حيث تربطه علاقات متينة بنظام الرئيس السابق عمر البشير الذي أسند له 12 وظيفة ومنحه مزايا مادية سخية، وهو يملك علاقات جيدة مع داعش والقاعدة.
وأتاحت التحالفات المتشعبة للإخوان القدرة على التحرك من خلال ميليشيات وتشكيلات عسكرية قبيل ساعة الصفر وبعد أن وفر معاونوها وخلفاؤها داخل السلطة الكثير من العوامل المساعدة.
فقد جمّد قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان عمل لجنة تفكيك نظام الإخوان وإزالة التمكين واستعادة الأموال المنهوبة، وتوج سيناريو إعادة كوادر الجماعة للمشهد بتهريب قادتها من سجن كوبر، في مقدمتهم أحمد هارون وإبراهيم السنوسي وعلي عثمان طه ونافع علي نافع، والذين أعلنوا الاصطفاف مع الجيش في حربه ضد قوات الدعم السريع.
ولم يتم السماح فقط للإخوان بالعودة في صورة سياسية عبر الإعلان السابق عن إطلاق ما عُرف بتحالف التيار الإسلامي العريض الذي ضم 10 فصائل تنتمي للجماعة، إنما سُمح لها بالعودة في صورتها الميليشياوية.
ومُنح قادة ميليشيات سيئة السمعة الضوء الأخضر للظهور، وأبرزهم أسامة عبدالله وأنس عمر والإخواني علي كرتي الذي ظل مختبئًا فترة طويلة.
وشكل عسكريون إسلاميون متقاعدون ميليشيات مسلحة، مثل قوات كيان الوطن ودرع الشمال ودرع الوطن، ما يعيد سيناريوهات حقبة حكم الإخوان (1989 – 2019) حيث تكاثرت الميليشيات في شكل قوات سميت قوات الدفاع الشعبي، وجرى إضعاف الجيش وإدخاله في حروب عبثية بدعوى محاربة “الكافرين في الأرض”.
وكعادة الإخوان لم يكن الهدف بث الفوضى وتكريس الميليشياوية فقط، بل إجهاض التسوية السياسية، حيث كان من المقرر تحويل الاتفاق الإطاري إلى نهائي في الأول من أبريل الماضي، وحل التباينات بين القوى المدنية وممثلي الجيش والدعم السريع.
وجرى استقدام جماعات إرهابية من دول الجوار للتمركز في السودان وتحويله إلى معقل للمتطرفين بتنويعاتهم لضمان الهيمنة على السلطة.
تحفز داعش
على ضوء التطورات في السودان، يخطط داعش لتدشين حلقات ربط بين مناطق نفوذه في القارة كي يوسع نطاق سيطرته الجغرافية
تمثل الأوضاع الحالية في السودان حافزًا قويًا لتقدم تنظيم داعش، حيث يطمع في التمركز داخل موقع جيوسياسي مهم يربط بين إقليمين أفريقيين بالغي الهشاشة يقعان في الشرق والغرب من السودان.
وتغري إطلالة السودان على البحر الأحمر قادة التنظيمات المتطرفة بهدف السيطرة على ممر ملاحي أو التأثير فيه من خلال تعطيل السفن والتجارة.
ويريد تنظيم داعش، والذي يتبنى بوضوح خطاب الإرهاب العابر للحدود، التواجد في نقطة تقاطع مصالح قوى إقليمية ودولية عبر التهديد باستهداف موانئ تمثل أهمية خاصة، والضغط لأجل تنفيذ عمليات ضد أهداف بحرية عالية القيمة، مثل ناقلات النفط والقواعد العسكرية.
وسبق وأن لبت بعض خلايا تابعة لداعش في السودان دعوات القادة بمركز التنظيم بتفعيل نشاطها والإعلان الحذر عن وجودها، حيث استهدفت ضباطا بجهاز الاستخبارات السوداني في سبتمبر 2021، وأعلنت إحداها مسؤوليتها عن محاولة اغتيال رئيس الحكومة الانتقالية السابق عبدالله حمدوك في مارس 2020.
ووصفت تقارير غربية شبكة داعش في السودان بـ”النشطة”، على الرغم من العدد القليل الذي نفذته من عمليات، ما يعكس اهتمام التنظيم خلال المرحلة الماضية بوجوده على الأرض وزيادة التجنيد، انتظارًا لفرصة مواتية.
وتبدو الفرصة الآن مهيأة لداعش، وهو التنظيم الحريص على تعويض خسائره وهزيمته المدوية في كل من سيناء بمصر، وتراجعه في العراق وسوريا، ومحاولة خلق عمق لحضوره الأفريقي الذي يتغذى على ضعف بعض الجيوش والأجهزة الأمنية في المنطقة، فضلا عن صعوبة السيطرة على الحدود المشتركة بين العديد من الدول الأفريقية.
ويخطط داعش، على ضوء التطورات في السودان، لتدشين حلقات ربط بين مناطق نفوذه في القارة كي يوسع نطاق سيطرته الجغرافية، مراهنًا على بيئة منقسمة سياسيًا وعرقيًا وقبليًا وأيديولوجيًا.
جهوزية القاعدة
فرع الإخوان بالسودان يريد أن يكون بوابة استعادة الإسلاميين للسلطة بجعل السودان مركز قوة إقليمي للإسلام السياسي وحلفائه
بدا تنظيم القاعدة قبل اندلاع الصراع المسلح وأثناءه في منتصف أبريل الماضي أكثر جهوزية من داعش للتدخل بشكل منظم ومبني على خطط أُريد لها أن تبدو متماسكة بهدف نيل القدر الأكبر من المكاسب.
وعكست الخطط المطولة التي سردها القيادي والمنظر بالقاعدة أبوحذيفة السوداني رغبة لدى قادة التنظيم خارج السودان لجعله نسخة مكررة من أفغانستان في مرحلة ما عُرف بالجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي، وكثّف الاقتباسات من آراء وعبارات القيادي الإسلامي الفلسطيني الراحل عبدالله عزام، ويعود له الفضل لتحشيد جهاديين باتجاه الساحة الأفغانية.
ويعتقد أبوحذيفة وغيره من قادة القاعدة ومخططيها ومنظريها أن السودان بيئة مثالية لانطلاق موجة “قاعدية” جديدة شبيهة بتلك التي انطلقت من أفغانستان، لذلك حرص الرجل على تقمص شخصية عزام، حيث دعا مؤخرا إلى الانتقال بكثافة إلى السودان، وأفتى بأن “الالتحاق بركب الجهاد هناك واجب على كل مسلم وفرض عين”.
وحرص تنظيم القاعدة على تفادي الوقوع في أخطاء وقع فيها من قبل، حرمته من استدامة التمركز والنشاط في السودان، مثل الانقسام في الهيكل القيادي والافتقار إلى القيادة الفاعلة النشطة والرؤية الواضحة.
ويركز القاعدة على تشكيل خلايا وزرعها في المدن ومناطق سودانية مختلفة، وتأسيس فرع استخباراتي لتوفير الأمن الداخلي وبيانات للأهداف، ويأمل في استعادة مكانته على قمة النشاط الإرهابي العالمي بالاستفادة من كيانات نافذة في الداخل تحرص على توظيفه للضغط على قوى إقليمية ودولية.
وكذلك العمل من أجل السعي لتكرار ما قام به حسن الترابي وعمر البشير في تسعينات القرن الماضي عندما كان التعاون بينهما كبيرا حول المشروع الإسلامي، واستقطبا الكثير من القيادات المتطرفة للسودان، وأبرزهم مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي اضطرت الخرطوم لطرده من السودان في منتصف التسعينات من القرن الماضي.
وتتضاعف حظوظ القاعدة في السودان بالنظر إلى وقوعه ضمن حزام إقليمي مفخخ لعب فيه التنظيم دورًا كبيرا في العقد الأخير عقب انتشاره في دول الساحل الأفريقي، علاوة على تمركزاته في الصومال وليبيا.
ويصعب أن يصد السودان مخططات التنظيمات المتطرفة إلا بدولة ومجتمع متماسك وصلب ومتحد، يتخطى الانقسامات التي تهدده بالتفكك، سواء تلك الواقعة بين التيارين المدني والإسلامي، أو بين العسكريين، أو بين العسكريين والقوى المدنية، ناهيك عن تخطي الانقسامات العرقية.
هشام النجار
كاتب مصري