تقرير: نجدة بشارة
في أول خطاب له أمام الشعب السوداني، بدأ رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك حديثه للعالم بمنعرجات الأمور ومنعطفاتها، وقال :”لأ أحمل معي عصا موسى” ، لكن الثوار والقوى السياسية التي جاءت به منقذاً، بينما هم جلوس على “سفينتهم الغارقة تلك ” “نصبوه مهديهم المنتظر” ثم ألقوا على عاتقه بكل مرارات وأزمات الماضي وتفرغوا للاحتفال بدولتهم المدنية، فهل سيستطيع حمدوك بحقيبته التي بدت معدة مسبقاً، حتى قبل اختيار حكومتة، إصلاح ما أفسدته سياسات الثلاثين عاماً الماضية؟
ولربما أدرك رئيس الوزراء حجم الضياع الذي عاش فيه ويعيشه السودان الآن فقطع وعده بأن ينتهج نهجاً براغماتياً” في إصلاح الاقتصاد، ومفتاحه في ذلك “وقف الحرب” و”بدء الإنتاج والإصلاح الزراعي” وتدشين عهد جديد” من العلاقات الخارجية و”إصلاح مؤسسات الدولة” وخلق “فريق متجانس للعمل معاً” في مشروع “انتشال” البلاد إلى العهد الجديد.
حقيبة حمدوك
مؤخراً استبق رئيس الوزراء حكومته المزمع تشكيلها بالإعلان عن برنامجه للفترة الانتقالية وعن أهم أولوياته خلال هذه المرحلة، وقال: إن قبوله بالمنصب جاء استجابة لنداء الوطن للمساهمة مع الشعب في العبور بالبلاد إلى بر الأمان وبناء مجتمع تعددي ديمقراطي، مضيفاً بأن “حكومتة ستكون حكومة كفاءات وطنية”، وأن اختيار الوزراء سيكون أول اختبار أمام قوى الحرية والتغيير للوفاء بالوعود التي قطعتها بأن الحكومة ستكون حكومة كفاءات، واستبعد وقوع خلافات حول برنامجه، وتابع بالقول (ليست هنالك قضايا فكرية وأيدلوجية كبيرة يمكن أن تزحم البرنامج المناط تنفيذه).
في الأثناء عبر عدد كبير من المحللين عن تفاؤلهم وارتياحهم ببرنامج حمدوك وعدوه (الخلاص) لحل جميع أزمات السودان لاعتقادهم النابع من أن الأزمة الاقتصادية مصدرها سياسي بالكامل، ولربما استندوا على قول حمدوك الذي قطع به قول كل خطيب في المقابلة التلفزيونية التي بثت مساء أمس الأول وبثقة يحسد عليها :”الأزمة الاقتصادية يمكن حلها”.
في المقابل وصفه عدد من المتشائمين بأنه قفز عالياً في التفاؤل وأن برنامجه ليس سوى روشتة للبنك الدولي حامي تقاليد الرأسمالية العالمية، والتي تضع للدول الراغبة في دخول ناديها حزمة من الإصلاحات والشروط الملزمة التي قد لا يملك السودان الآن القدرة والإمكانية لتنفيذها فيما أجمعوا على أن تحديات صعبة تنتظر حمدوك ليجتياز الكثير من المصاعب، ولتحقيق رؤى وتطلعات الشعب السوداني.
إعادة توازن
اعتبر الخبير الاقتصادي د.عز الدين إبراهيم في حديثه (للصيحة ) بأن حديث حمدوك مبشر ومطمن وأردف: اتفق معه على أن مشكلة الاقتصاد ليست مستعصية ويمكن حلها لجهة ارتباطها بمشكلة سياسات أفقدت الاقتصاد التوازن، والحكومة الانتقالية ربما تحتاج فقط الى معرفة كيفية استعادة التوازن، وقال: كان حرياً تقسيم برنامج الإصلاح إلى ثلاث مراحل إسعافية، وعاجلة تنحصر في معالجة مشكلة السيولة، الكهرباء والوقود ، متوسطة ثم طويلة التنفيذ والأخيرة ربما لن يسعفه الوقت لتطبيقها لقصر فترة الانتقالي.
ويرى عز الدين أن أهم حدث يمكن أن يغير خارطة السودان بصورة عاجلة يمكن أن تتحقق في حال استطاع حمدوك استقطاب التأييد الخارجي برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعفاء الديون بجانب استقطاب الدعم.
كسر العزلة
وكان حمدوك قد نبه إلى أن العبور من هذه المرحلة بحصافة يتطلب التعامل مع الأصدقاء والشركاء دون شروط، وأضاف (يجب أن تخرج السياسة الخارجية للمصالح المشتركة بما يحقق مصلحة السودان)، وأردف: نطمح لتعاون يخرجنا من العزلة السياسية والعقوبات، وفي ذلك بدأ أول خطوات التنفيذ بمحادثات مع الولايات المتحدة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومحادثات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لمناقشة إعادة هيكلة ديون السودان، وتواصل مع الدول الصديقة وهيئات التمويل بشأن المساعدات، وأشار حمدوك إلى أنه يجري اتصالات من أجل تحقيق ذلك، وأن الاحتياطيات في البنك المركزي ضعيفة ومنخفضة للغاية.
احتياجات عاجلة
وبحسب مصادرصحفية، قال حمدوك: إن السودان يحتاج إلى 8 مليارات دولار مساعدات خارجية على مدار العامين المقبلين، على أن تتوفر كاحتياطي من النقد في البنك المركزي للمساعدة في إيقاف تدهور سعر صرف الجنيه السوداني، وقال حمدوك: “سنعمل على توحيد سعر صرف الجنيه، وأن يدار سعر الصرف عن طريق سعر الصرف المرن المدار… تعدد سعر الصرف للجنيه هو المدخل للتشوهات في الاقتصاد السوداني خاصة وأن السودان سبق وخفض قيمة الجنيه مرات عدة، لكنه فشل في منعه من الانهيار. ويبلغ سعر الدولار في الوقت الحالي 65 جنيهاً في السوق السوداء مقابل السعر الرسمي البالغ 45 جنيهاً.
شعارات ثورة
ومن الخطط التي لم يجد لها الخبراء تفسيراً دعوته لوجوب اتخاذ قرار بعدم تصدير أي منتج هام مثل الصمغ العربي وغيره وضرورة تصنيعه بالداخل وهي القرارات التي لم ينتبه لها كل الخبراء والاقتصاديون الذين امتطوا صهوة الإدارات الاقتصادية، ونبه حمدوك إلى تعرض القطاع الزراعي للإهمال وزيادة تكلفة الإنتاج وفرض 17ضريبة عليه، وقال د. إبراهيم إن الحديث عن وقف صادر المنتجات قد يحتاج لدراسات طويلة لا سيما وأن هنالك عجزا قائماً في الميزان التجاري يقدر بحوالي 25 مليون دولار، وقال إن المشكلة الآن تنحصر في ميزانية الدولة التي أدت لتآكل الاحتياطي المالي ببنك السودان حسب ما ورد في حديث حمدوك، ونبه بالمقابل إلى أن الشعارات التي جاءت بها الثورة ستزيد الطين بلة لجهة مناداتها بمجانية الصحة، التعليم، خلق الفرص الوظيفية وهي شعارات لا يمكن أن تجد حظها في التطبيق في ظل هذه الظروف وعلى الأقل في الوقت الراهن.
تحديات ماثلة
في ذات الوقت وصف مراقبون أن برنامج حمدوك تنتظره تحديات ومتاريس قد تسعى لعرقلة خططه ومساراته، وأشاروا إلى مواقف الإسلاميين وأنصار المؤتمر والرئيس السابق، (الدولة العميقة)، وهم الذين ربما سيمثلون ضغطًاً عليه، وأمام هذا المشهد يبقى خيار الوفاق الوطني ترساً يصعب تجاوزه، الأمر الذي قد يدفع رئيس الوزراء الجديد إلى وضعه في الاعتبار عند تشكيل حكومته، وقال حمدوك في ذلك: إن الفساد والجيوب العميقة الفاسدة لن تقف مكتوفة الأيدي وستحارب: وأردف: وذلك بالمقابل يتطلب تطبيقاً صارماً للقوانين وقضاء مستقل وأجهزة إعلام تلعب دوراً رئيسياً، ولربما إلى الحنكة السياسية التي تتطلب هنا العودة للوراء قليلاً لمزيد من احتواء القوى السياسية المعارضة التي حتى لم تشارك في المسار الثوري منذ بدايته، فضلاً عن رفقاء الحراك وإن اختلفوا في آليات المعالجة بعد ذلك.