حتى لا يضيع الوقت ..
تحتاج حكومة السيد د. عبد الله حمدوك، أن تجمع حولها عامة الناس أولاً قبل أن تشرع في إرضاء مُكوّنات قوى الحرية والتغيير، فقد انقضى وقت الشعارات والتعبئة السياسية الهائِجة، وجاء زمن العمل والاجتهاد وتصويب النظر والفعل إلى القضايا المُلحّة التي تنتظر الحكومة، ونحن نعرف أن الناس لا يُطيقون كثير انتظار، يُريدون قليلاً من الكلام كثيراً من الفعل، وحتى اللحظة أعطى السيد رئيس الوزراء للرأي العام ثقة واطمئناناً لا بأس به، وقدّم نفسه في صورةٍ جيّدة تبعث على التفاؤل، فعليه ألا يركُن إلى ما تقوله الألسن السياسية وصالوناتها ومجالسها واجتماعات أحزابها، أمامه تحديات كبيرة، وقد رأى بعضها بعينيه، وشاهدها ماثلةً أمامه بعضها تنقطِع نياط القلبِ من بؤسِها وحزنِها مثل المشاهِد التي رآها في الجيلي والمناطق التي تأثرت بالأمطار والسيول .
من البدِيهيّات أن السيد حمدوك في اجتماعه مع وكلاء الوزارات وكبار المسؤولين التنفيذيين، يكون قد وقف على أوضاع البلاد الاقتصادية والأمنية والمعيشية، ويكون قد عرف ما الذي يتوفّر من وقود في المصفاة وبقية مواعين التخزين، وهل يكفي حاجة البلاد خلال الفترة القادمة أم لا..؟ وما هو الإنتاج اليومي من الكهرباء، وما يتوفر منها يومياً..؟ وكم هي كمية الدقيق الموجودة في المطاحن والمخازن والقادمة إلى الميناء، والتي في طريقها عبر قنوات التوزيع..؟ ولابد له أن يكون قد اطّلَع على الموقِف الدوائي ووضع المستشفيات والموقف الصحي كله مع حُميّات الخريف وأمراضه التي تتسبّب فيها عوامل البيئة المُتدهوِرة في فصل الخريف كل عام..؟ وأوضاع التعليم والمدارس المُغلقة والجامعات المُتوقّفة عن الدراسة.. وتعرّف على حالة الطّرق القومية التي جرفتها السيول والفيضانات ودمّرتها الأودية العاتِية والخيران الغاضِبة، ولابد أنه تلقَّى تقارير واقعية وعملية حول توفّر السلع الضرورية وعرَف الاحتياجات الفِعلية لكل الولايات، واطّلع كذلك أو استمع لتقارير وافية عن الوضع الأمني بالبلاد وأحداث بورتسودان، وطوَّف على بقية مناطق السودان المُتفرِّقة ..
هل ستترُك كل هذه الهموم للسيد رئيس الوزراء الوقت ليستمع لأحاديث السياسيين التي لا بيداً تَقطَع ولا ظَهراً تُبقِي، سيُغرقونه في تهويماتهم وحظوظ أنفسهم وانطباعاتهم الشخصية ومواقف تنظيماتهم المُتعارِضة، وكلٌّ يُغنِّي على ليلاه، وكل يدَّعي النضال وأنه الذي أسقط النظام السابق، وأنه هو الذي مَهَر طريق الثورة وخضَّبها بالدماء، سيقولون له عن بطولاتهم في اقتلاع النظام السابق وسوءاته ما لم يقُله إمام دار الهجرة عن الخمر، سيضيع وقته معهم وهم في مُماحَكاتِهم واختلافاتهم في ترشيحات الوزراء وبقية التنفيذيين، سيشهد بنفسه كيف ستَبِينُ له منهم أنياب الطمع والشَّرَه والحِرص على المُحاصصات الحزبية للمشاركة في حكومة كان الاتفاق حولها منذ البداية أنها حكومة كفاءات وطنية مُستقلّة تُمهِّد الطريق لاستدامة الديمقراطية وتشييد بنيانها على أساس سليم ومُعافَى .
لو أنفق السيد حمدوك وقته من أجل إيجاد الحلول للقضايا الحقيقية، وترك لجنة مُصغّرة يُكوِّنها، لتُعطيه الخُلاصات النهائية لترشيحات قوى إعلان الحرية ليختار منها الأكفأ، وتفرَّغ هو لوضع المعالِم الرئيسية لبرنامج الحكومة العاجِل، ومُعالجة الأزمات الراهِنة والمُلحّة، لهو أفضل له وأنجع، فليَقُم بما يُمليه عليه الواجب ومقتضى المسؤولية التي أُلقِيتْ على عاتقه، من أجل المواطنين المساكين، وحتى لا تتفاقَم المُشكلات الراهنة، وليطلُب من هذه الأحزاب والقوى السياسية التي ستتكوَّن الحكومة وفق مرادها، أن ترفد إليه بتصوّراتها وأفكارها أولاً قبل أن تُقدّم له الأشخاص، فهذه الأحزاب حتى اللحظة لم تُقدّم رؤى مُحكَمة حول القضية السياسية والأزمة الاقتصادية، والمِحنَة الاجتماعية، وظاهرة الانسحاق الثقافي التي ضربت بأطنابها وعمّقت أوتادها.. فليطلُب منهم بدلاً من تضييع الوقت برامج ومعرفة ومناهج للحل، ونخشى أن يجدها خالية الوفاض ليس لديها ما تُقدّمه وكالبراميل الفارِغة أكثر ضجيجاً… وتلك مِحنَة كُبرى …!