* لماذا تذكرت قانون “رولات” الذي سنته بريطانيا عام ١٩١٩ في مستعمرتها الهند للحد من تنامي المعارضة وسط الهنود من أجل نيل الاستقلال والتحرر من الاستعمار، ذلك القانون البغيض أباح للسلطة الاستعمارية سجن المناوئين لبريطانيا دون محاكمة، وقام الجنرال ريجنالد داير بإطلاق النار على مظاهرة سلمية مما أدى لمقتل ألف شخص. ومن مخازي البرلمان البريطاني عبر التاريخ تأييده لقتل الهنود بعد انسحاب نواب حزب العمال ومقاطعتهم للجلسة ورفضهم ذلك الفعل الإجرامي.
في بلادنا السودان تتجه حكومتنا الوطنية في عهد الحرية والتغيير الي سن قانون مثل “رولات” وإنشاء نيابة متخصصة لمراقبة المساجد ودور العبادة، وقال إسماعيل التاج القيادي في تحالف “قحت” لفضائية “الشروق” إنهم سيعملون مع النائب العام الجديد لإنشاء نيابة لمحاربة التطرف في المساجد.
وربما توافقت مثل هذه المشروعات التي تضييق على الإسلام الحركي والإسلام الصوفي والإسلام السلفي مع مشروعات خليجية في المنطقة العربية والإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب والإسلام السياسي. وتبحث مشيخات الخليج مع بعض المتماهين مع مشروعها السياسي بحثاً عن فرعون سوداني وليس بالضرورة أن يبعث الفرعون فرداً، وقد تصبح بعض الجماعات فرعوناً وبعض الأحزاب كسرى، ألا رحم الله الشاعر اللبناني خليل مطران حينما قال :
كل قوم صانعو فرعونهم
قيصراً أسميته أم كان كسرى
وإسماعيل التاج ورهطه من الناشطين السياسيين جعلوا كل جهدهم وعلمهم وكدهم وسعيهم من أجل الهيمنة والسيطرة على مفاتيح المؤسسات العدلية والقضائية في البلاد، لا من أجل بعث إرث عدلي أرسى قوامه وسقى زرعه قضاة عدول كتبوا أسماءهم في سفر التاريخ القضائي، وحفظت مجلة الأحكام القضائية ذلك في دفاترها كسوابق بها اللاحقون يهتدون مثل منارات العدل القاضي أبورنات والقاضي عثمان الطيب، وأبيل ألير ود. عبد الرحمن عبده.
ولكن قادة الحرية والتغيير يسعون لوضع الهيئة القضائية تحت إدارة الناشطين سياسياً من أعضاء “قحت” الذين خلعوا وقار ثوب القضاء، وساحوا في ساحات العراك السياسي متحرفين لفئة من الشعب في مواجهة أخرى. وقدمت “قحت” القاضي والناشط السياسي في صفوف “قحت” عبد القادر محمد أحمد لتولي منصب رئيس القضاء من غير استيفاء لشروط أهلية هذا الموقع المرموق الذي يتطلب خبرة لا تقل عن ثلاثين عاماً في دروب وشعاب القضاء، وتدرجاً من مساعد قاضِ إلى قاضٍ وقاضي محكمة عامة، وقاضي استئناف، وقاضي محكمة عليا، ولم تتعد خبرة مرشح قوى الحرية والتغيير عشر سنوات، وتقدم باستقالة شجاعة للرئيس الأسبق حينما رأى العدالة تذبح بسكاكين المحاكم العسكرية، وذلك موقف مشرف للقاضي عبد القادر محمد أحمد، ولكن المواقف المشرفة وحدها لا تؤهل أصحابها لتقلُّد المواقع التي تحتاج للخبرة والمؤهلات والتجارب، ولكن القضاء في هذه البلاد يتعرض لضغوط تنوء بحملها الجبال، فالتحالف الحاكم يريد قضاء ينتقم له من خصومه السياسيين، ويمارس كل أنواع التحيز وانتهاك نصوص القانون بدعوى تنفيذ رغبات الثوار وتحقيق أحلامهم في وطن تكالبت عليه المحن والفواجع.
وإذا كانت قوى الحرية والتغيير تسعى للوفاء لأصحابها من القضاة السابقين مثل مرشحيها لمنصب قاضي القضاة ومرشحها لمنصب النائب العام محمد الحافظ، فالوفاء للصحاب أمر حسن، ولكن مهما كانت حسناته لا ينبغي أن يكون على حساب ذوي القدرات التى يستلزمها الموقع.
وكان الرئيس السابق لتونس منصف المرزوقي يردد بيت شعر يقول:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
من كان يذكرهم في الموضع العسر
وعسر الساحة الآن في الصراع حول القضاء بين إسلاميين يقبعون في السجون يتوقون فقط لقضاء عادل ونيابة مستقلة ومحاكمات مفتوحة، وبين يسار متوحش تفيض جوانحه بالسخائم والأحقاد والانتقام من فرقاء أبعدوهم من وظائفهم في دولتهم بغير حق، وجاءت سانحة الانتقام منهم والأخذ بثأرهم القديم وبين هذا وذاك، يمتحن القضاء السوداني في محنته الحالية، كيف يعبر مثل هذه المنعطفات بالغة التعرُّجات؟؟
قلق خليجي من إفادات البشير أمام قاضيه
صدم الرئيس السوداني الأسبق من قفص اتهامه بحيازة نقد أجنبي وغسيل أموال وتمويل عمليات إرهابية حلفاءه السابقين وشركاءه في حرب اليمن السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو يتحدث عن مصادر الأموال التي وُجِدت بحوزته وفي المنزل الرئاسي الذي يُقيم فيه ليلة إزاحته من السلطة من خلال عصبة من العسكريين اختارهم بعناية للإبقاء على حكمه وتثبيت أركان نظامه فانقلبوا عليه على غرار ما حدث في مصر بانقلاب السيسي على الراحل د. محمد مرسي.
وقال الرئيس السوداني الأسبق إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وضع بين يديه مبلغ مائة مليون دولار أمريكي للتصرف فيها كمصاريف جيب ليتصرف فيها وفق ما يراه مناسباً عطفاً على مليون دولار أخرى قدمها إليه محمد بن زايد عبارة عن صك مالي، ولكنه ـ أي البشير ـ قد ضاع منه ولا يعرف مصير هذا المبلغ الوضيع.
وأثارت إفادات البشير الصادمة قلقاً في أوساط العاصمتين الخليجيتين الرياض وأبوظبي، وعمدت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية في عددها لها لتحريف حديث البشير ومحاولة تغطية ما قاله الرئيس الأسبق عن السعودية والإمارات العربية المتحدة بتحريفه وقولها إنه وجه حديثه عن مصادر الأموال لبلدان خليجية.
وأقر البشير أمام القاضي بأنه كان يتصرف في الأموال السعودية والأماراتية بما يراه مناسباً ودفع منها دعماً مالياً لقناة “طيبة” الفضائية التي يملكها رجل الدين السلفي عبد الحي يوسف ولضباط في الجيش السوداني آثر عدم ذكر أسمائهم ولمستشفي عسكري (علياء) دون تفصيل، ولكنه قال إن بعض الأموال تسلمها نائب قائد قوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم حمدان دقلو شقيق الفريق حميدتي.
وينتظر السودانيون بلهفة معرفة مزيد من التفاصيل عن الأموال الخليجية التي دفعتها الدولتان عبر مؤسسات الدولة وعبر مديرو مكتب الرئيس الأسبق ومثول الشخصيات التي وردت في أقوال البشير أمام المحكمة للإقرار بادعاءات الرئيس الأسبق أو إنكارها.
وبدأت سفارتا الإمارات والسعودية في الخرطوم اتصالات بالعديد من الفاعلين في الساحة السودانية
“للملمة ” أي التغطية على ما يجري في المحاكمة التي يخشى أن تصيب قيادات سياسية عديدة بدوار البحر إذا ما مضى الرئيس الأسبق في فتح ما يطلق عليه السودانيون صندوق (البنضورة) أي الطماطم وخدش ثياب آخرين في الأحزاب السياسية، وفي المجلس العسكري.
وكان الإمام الصادق المهدي قد أطلق تصريحات عشية تقديم البشير للمحاكمة طالب فيها بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائية لمحاكمته هناك في لاهاي، وهي محكمة معنية فقط بالجرائم التي ارتُكبت في دارفور أثناء فترة الحرب، ولن تتطرق بطبيعة الحال لتفاصيل ما وجدته القوة التي داهمت مقر إقامة الرئيس الأسبق من أموال عشية إزاحته من السلطة .
سرية المحاكمة القادمة
بات في حكم المؤكد ان تفرض السلطات الأسبوع القادم سرية على محاكمة الرئيس الأسبق وتحظر تغطية القنوات والصحف استناداً إلى تجربة سابقة بعد سقوط النظام الأسبق للرئيس الراحل جعفر محمد نميري الذي أطاحت به انتفاضة شعبية مماثلة في عام ١٩٨٥ وتمت محاكمة الضباط الذين قادوا الانقلاب في مايو ١٩٦٩ وبعد عدة جلسات علنية اضطر المجلس العسكري الانتقالي لحجب الجلسات عن وسائل الإعلام بعد أن اصبحت المحاكمة منبرًا للنيل من التغيير وساحة لمحاكمة بعض الناشطين في الساحة تلك الأيام ومن بينهم عسكريون في المجلس الانتقالي حينذاك. وما أشبه الليلة البارحة، والبشير يبدأ في الإفصاح عن معلومات تنال من حلفائه السابقين في المنطقة وبعض الشخصيات العامة في السودان الآن.
ويتعرض المشروع الإماراتي ـ المصري ـ السعودي، لشروخ عميقة قبل أن تبدأ الفترة الانتقالية بتفاقم الأوضاع الاقتصادية وعودة صفوف طالبي الخبز الحافي، وبات مألوفاً تراص صفوف الصبية والنساء أمام المخابز منذ الصباح الباكر بحثاً عن لقيمات وتقف مئات السيارات أمام محطات الوقود للتزود بالجازولين والبنزين، في وقت تتحدث فيه البلدان الخليجية عن دعم وإسناد التغيير في السودان.
وفي احتفالية التوقيع على الدستور يوم السبت الماضي، تعرض رئيس الوزراء المصري لموقف بالغ الحرج حينما ذكر اسمه أمام الاحتفالية بقاعة الصداقة، ووجدت مصر تصفيقاً باهتاً من أيادٍ معدودة من الناشطين داخل القاعة من أنصار قوى الحرية والتغيير، وعندما ذُكرت بعد مصر مباشرة دولة أثيوبيا دوّت القاعة بالهتافات والتصفيق، وهي رسالة بليغة طرقت آذان المصريين، إلا أن هاني رسلان مدير مركز الأهرام للدراسات، قد قلل مما حدث، ونسب هتافات السودانيين لآبي أحمد رئيس وزراء أثيوبيا وضعف تفاعلهم مع رئيس الوزراء المصري بأن ذلك مرده لأنصار وأتباع النظام السابق.
الخروج من السيادي والدخول في نفق التنفيذي
بعد عسر شديد وخلافات كادت أن تعصف بوحدة تحالف قوى الحرية والتغيير تم التوافق في وقت متأخر من الليل على أعضاء المجلس السيادي المدني البالغ عددهم خمسة أعضاء وامرأة تم التوافق عليها من قبل الشريكين العسكري وقوى الحرية والتغيير، وبعد مخاض عسير عاد القيادي الشاب في حزب الأمة محمد الحسن التعايشي للقصر الرئاسي عضواً ومرشحاً لمنصب نائب ثاني المجلس ، والأربعة الآخرون هم محمد الفكي ممثلاً للاتحادي الديمقراطي، وحسن شيخ إدريس من شرق السودان، ودكتور صديق تاور كافي أبوراس القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي ممثلاً لجبال النوبة التي تناهض انتماء السودان العربي، والمرأة الثانية في مجلس السيادة وممثل الحزب الشيوعي عائشة موسى ٧٩ عاماً أرملة الشاعر محمد عبد الحي رائد مدرسة الغابة والصحراء، وتم التوافق دون جدال وخلافات حول ممثل الأقلية القبطية في السودان المستشارة رجاء نيكولا عبد المسيح، وبدأ ربيع المرأة السودانية بإجماع المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على القاضية نعمات عبد الله محمد خير كأول امرأة تتقلد منصب رئيس القضاء في السودان. وتقول سيرتها المهنية إنها من أوائل السودانيات اللائي حققن نجاحاً في سلك القضاء، وعرفت بقوة الشخصية والنزاهة وعفة اليد، وهي لا تملك منزلاً بالخرطوم، وتقيم مع والدها اختصاصي التخدير، وحكمت من قبل على الملياردير السعودي عدنان خاشقجي بالغرامة لصالح حكومة السودان بعد انتفاضة ١٩٨٥ وحكمت بالسجن علي وزير شؤون الرئاسة في حكومة مايو بهاء الدين محمد إدريس، ويعتبرها قضاة في المحكمة العليا من النوابغ العدول، وهي مستقلة عن الأحزاب السياسية، ومنتظر أن يؤدي القسم أمامها أعضاء المجلس السيادي.
إلى ذلك تم التوافق على مولانا الهادي عوض مكاوي لمنصب النائب العام، بعد رفض المجلس العسكري تعيين مرشحين لقوى الحرية والتغيير من القضاة السابقين الذين تظاهروا أيام تصاعد الغضب الشعبي على النظام السابق وتم رفضهم لانتمائهم المعلن لقوى الحرية والتغيير.
وبعد انقشاع مرحلة الصراع على المجلس السيادي وصل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لخوض ماراثون طويل لاختيار حكومته من ٢٢ حزباً وحركة سياسية وواجهات نقابية تحالفت تحت سقف الحرية والتغيير فهل يفلح حمدوك في تكوين الحكومة الانتقالية لتؤدي القسم في الموعد المضروب مسبقاً في الثامن والعشرين من آب أغسطس الجاري؟ أم تتعثر خطى التشكيل مرة أخرى على غرار ما حدث في تكوين مجلس السيادة.