الخرطوم: مروة كمال الترابي
تشارك الحكومة في النشاط التجاري بأكثر من 251 شركة بالرغم من أن تصفية الشركات الحكومية سياسة معلنة كجزء من سياسات تحرير الاقتصاد وتشجيع القطاع الخاص، ولأن وجود شركات حكومية منافسة للقطاع الخاص يؤدي إلى تشوهات في الاقتصاد وسوء استغلال للموارد وخرق لوحدة الموازنة، لا سيما أنها تحظى بامتيازات وتسهيلات لا تتوفر لشركات القطاع الخاص مما خلق نوعاً من المنافسة غير العادلة التي من شأنها أن تؤدي إلى خروج عدد من شركات القطاع الخاص من السوق، حيث أن هناك أموالاً يفترض توجيهها ضمن الإطار المتفق عليه ،وظل القطاع الخاص ينادي بخروج الحكومة من النشاط الاقتصادي بالبلاد، ويبدو أن توجه الحكومة السابقة انتهجته المرحلة الانتقالية الحالية حيث شدد رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس العسكري الانتقالي بضرورة خروج الحكومة من النشاط التجاري .
والشاهد أنه منذ انطلاق البرنامج الخماسي الاقتصادي لحكومة الإنقاذ قبل أكثر من ثلاثة أعوام ألقت الحكومة حملاً ثقيلاً على ظهر القطاع الخاص بتخصيص 83% من مجمل النشاط الاقتصادي في البلاد بحلول العام 2019 تمهيداً لخروجها من السوق.
واستناداً على البرنامج الخماسي الذي سيفسح المجال للقطاع الخاص وفقاً لدراسة قدمها البنك الأفريقي للتنمية، حل مشكلات الاقتصاد بالإنتاج عبر القطاع الخاص بسياسات ترعاها الدولة وتلتزم بها.
عزيمة للتنفيذ
ويرى رئيس قسم الدراسات الاقتصادية بمركز الراصد د. الفاتح عثمان محجوب في تصريحات اللواء ركن جابر تقليدية، ظل مسئولون في الحكومات المتعاقبة يصرحون بها، وفي نهاية الأمر لم تجد أي عزيمة للتنفيذ، والمشكلة ليست في وجود شركات حكومية بدلاً عن الخاصة، وإنما صميم المشكلة يكمن في طبيعة سياسات الحكومة التي تشجع الاستهلاك والاستيراد وتحارب الإنتاج والصادر والسياسات الاقتصادية، وأضاف أن الإدارة الحكومية السيئة هي التي أدت إلى نشوء الشركات الحكومية والخاصة الفاسدة التي أضرت بالاقتصاد السوداني ومنعته من الازدهار، بيد أنه عاد ودافع عن وجود شركات حكومية فاعلة مثل زادنا التي أكد أنها تدعم الاقتصاد السوداني، فضلاً عن شركات تتبع للجيش والأمن تدمر الاقتصاد، وأخري ضرورية للاقتصاد مثل التصنيع الحربي، واعتبر إطلاق الكلام بهذه العمومية يضر بالاقتصاد السوداني على ضعفه، مشدداً على ضرورة التوقف عن إطلاق التصريحات غير المدروسة لمصلحة الاقتصاد السوداني.
آفة الفساد
رأس المال الذي تعول عليه الحكومة الانتقالية كثيراً في المرحلة الجديدة أن يلعب دوراً مهماً في نهضة الاقتصاد يسبح في نفس تيار الانتقالي، ويؤكد بدوره عبر مبادرته في الإصلاح الاقتصادي في المرحلة الانتقالية أن الشركات الحكومية وشبه الحكومية (رغم إعلان سياسة التحرير من بداية تسعينيات القرن الماضي)، التي انتشرت في كل المجالات (اقتصادية، إنتاجية، خدمية وتجارية على حد سواء) لازمتها ظاهرة استشراء آفة الفساد في كل مرافق الدولة، ومثلت تلك الشركات دور الآلية الحاضنة لفساد ظل يؤثر بصورة مدمرة على مفاصل الدولة، وخلق تشوهات في هيكل الاقتصاد الوطني، تزامن ذلك مع ظاهرة التجنيب، ولازم ذلك تعطل القوانين المنظمة للعملية الاقتصادية في ظل منهج الاقتصاد الحر مثل قانون مكافحة الإغراق، وتنظيم المنافسة ومكافحة الاحتكار، والقوانين المنظمة لعمليات الشراء والمحاسبة مع غياب قانون التنمية الصناعية.
ولعل من أكثر القطاعات تأثراً من الشركات الحكومية قطاع الصادر الذي رهن فيه مصدرون واقتصاديون انتعاش قطاع الصادرات السودانية بخروج الشركات الحكومية من القطاع، مشيرين لتسببها في خروج البلاد من المنافسة العالمية في العديد من صادرات البلاد مطالبين المجلس العسكري بالتدخل لإنقاذ القطاع، وقالوا إن الشركات الحكومية درجت على استغلال الامتيازات الممنوحة لها من قبل الدولة في شتى الأنشطة الاقتصادية في الصادرات سواء كانت في المحاصيل النقدية والثروة الحيوانية خاصة الشركات التابعة للتصنيع الحربي والشركات الأمنية إضافة للشركات المختلطة ما بين القطاعين الحكومي والخاص علاوة على بعض الشركات التي يملكها نافذون، وقادت هذه الممارسات لارتفاع الأسعار وفقدان المنافسة في الصادر عالمياً بخروج الكثير من المصدرين من القطاع لانعدام المنافسة والعدالة التجارية وإشكاليات سعر الصرف خاصة أن هذه الشركات تعمل على تجنيب حصائل الصادر خارجياً مما يحقق لها ميزة إضافية في ظل ظلم واضح للمصدرين الحقيقيين في القطاع.
ضعف رأس المال
ويتفق الخبير الاقتصادي د. ناجي مصطفى، مع هذا الاتجاه في أن دخول الحكومة في السوق كانت له أضرار كبيرة على الاقتصاد ظهر في شكل دخول الحكومة في السوق كمنافس وصاحبة امتيازات مما يضر بالمنافسين الآخرين الذين لا تتوفر لديهم الامتيازات مما يضطرهم للخروج من السوق ما يؤدي إلى ضعف الإنتاج والإنتاجية، لكن خروج الحكومة من السوق سوف يحقق معالجة لهذه المعضلة وسوف تكون هنالك منافسة حرة ولن تكون هنالك شركات أو مصانع حكومية تنافس نظيراتها من الشركات والمصانع الأهلية، بيد أنه عاد وحذر من خروج الحكومة من السوق من مغبته على الاقتصاد أن الخروج سوف يخلق مشكلة أخرى متمثلة في ضعف رأس المال السوداني أي أنه لا يوجد في البلاد مصنع يستطيع أن يغطي احتياجات الاستهلاك من سلعة ما، وفي المقابل لا يوجد أي مصرف في البلاد يستطيع أن يقوم بتمويل عمليات تجارية متاحة للجميع بأقساط لمدة عشر أو خمس سنوات، فحتى بيوت التمويل من المصارف هي ذات رأس مال محدود، وبالتالي خروج الحكومة من السوق يعني خلق مشكلات كبيرة جداً في توفير العديد من السلع مثل السكر، فجميع شركات السكر الخمسة حكومية، وأضاف أن خصخصة السكر مشكلة كبيرة فخروج الحكومة من القطاع ليصبح أهلياً وبالتالي يكون الاعتماد على التصدير إضافة إلى ارتفاع الأسعار لجهة أن الحكومة منافس حريص على الأسعار والسوق منافس حريص على الأرباح، مما ينتج عنها مشكلتين أولهما وجود شح كبير في العديد من السلع والخدمات التي توفرها الحكومة مثلما حدث في أزمة الدقيق نتيجة لانسحاب الحكومة ترتب عليه عجز القطاع الخاص من تغطية احتياج السودان من الدقيق نسبة لعقبة توفر الدولار، متوقعاً حدوث نفس السيناريو.
الأمر الآخر حدوث انفلات كبير في الأسعار لجهة أنه تحول كامل إلى الرأسمالي الحر في٩٦، جازماً بأن السوق الحر غير مناسب تماماً في السودان لجهة أنه يخلف تضخماً جامحاً ورهيباً لن تستطيع معه الحكومة معالجة الأوضاع الاقتصادية، وقال: سياسة خروج الحكومة من السوق يعني انهيار الأسعار تماماً والفشل في توفير العديد من السلع.
وأشار إلى أن الحل يكمن في تأهيل القطاع الخاص ليصمد عبر توفير التمويل المريح عن طريق المصارف والتي تقوم حالياً بعمليات تمويل حكرًا لأصحاب رؤوس الأموال الضخمة القادرة على تحقيق أرباح سريعة وإرجاع المبالغ للبنك، أما الطبقة الوسطى والدنيا من التجار لا تستطيع التمويل من البنك لعدم وجود الضمانات لديهم وعدم إمكانية تحقيق أرباح كبيرة وعاجلة .
وفي المقابل هنالك أصوات بُحّت وهي تنادي بتنفيذ خصخصة الشركات الحكومية المنافسة في السوق والتي تؤكد أنه لم يتم أي تطور في هذا الشأن فالشركات الحكومية والأمنية وشركات المتنفّذين أثرت تأثيراً مباشراً على الاقتصاد لجهة أنها لا تدفع ضرائب او جمارك أو زكاة أو عوائد العبور وتنامت بصورة كبيرة لأكثر من ٤٠٠ شركة وأصبحت سرطان الاقتصاد وأحد أسباب التردي الاقتصادي ويجب إيقافها أو تصفيتها فوراً، نسبة لأنها تؤثر تأثيرا مباشراً على معاش الناس، بل استحوذت على مبالغ كبيرة جداً من البنوك والتي كان من المفترض الاستفادة منها في زيادة الإنتاج والإنتاجية والتنمية عامة، من حقنا أن نسأل أين تذهب عوائد الشركات؟
معظمها خاسر
والثابت أن أهمية وجود الحكومة في الشركات لرقابتها، وإبراز المساواة بين الشركات الخاصة نهج آخر أشار إليه الخبير الاقتصادي د. هيثم محمد فتحي، جازماً بأن الشركات الحكومية في معظمها خاسرة أو معطلة أو إنتاجها غير جيد، مشيراً إلى أن الخصخصة لا تعني غياب الدور الحكومي المتمثل بشكل أساسي في الرقابة والمتابعة، لأنه لا غنى عن هذا الدور في تلك المرحلة، لضمان نجاح المشروعات.
ويرهن فتحي الإصلاح الاقتصادي بطرح الشركات الخاسرة أو خصخصتها، لاستقطاب مستثمرين وزيادة الإنتاج. وأكد إمكانية تصفية الشركات الخاسرة وطرح الناجحة للخصخصة مع الإبقاء على ذات الاستراتيجية، موضحاً أن الخصخصة لا تعني بيع الشركات، ولكن تصحيح مسار التجربة السابقة من خلال الشفافية في التعامل معها.
ويشير فتحي إلى أنه قبل خروج الدولة من السوق عليها البدء بتذليل المعوقات التشريعية والإجرائية التي تحد من قدرة القطاع الخاص في تنفيذ ذلك واختيار النماذج المناسبة لمساهمة القطاع الخاص وتحديد الخدمات ذات الأولوية التي يمكنه المشاركة فيها، لافتاً أن نسبة كبيرة من القطاع الخاص مؤلف من مشاريع متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة الحجم، وهو ما ينطبق على الشركات التي توظف أقل من 25 شخصاً مع عدم وجود سياسة حكومية للحد من السلوك غير التنافسي وقلة التطبيق الرسمي لقوانين حقوق الملكية أو الالتزامات التعاقدية، ويذهب الى أن الوقائع والتجارب أثبتت أنه لا وجود لاقتصاد السوق إلا في حاضنة دولة قوية بفاعليتها.
وأشار فتحي إلى أن الهدف الأساسي من مؤسسات الدولة هو حماية المال العام من الخسارة والسرقة، لكن هدف الشركات التجارية هو تحقيق عائد مناسب على رأس المال. وإذا لم تحقق الشركات الحكومية أهدافها فيجب أن تكون هناك محاسبة للإدارة بسبب ضياع الفرص لتحقيق العائد المناسب، وشدّد على ضرورة تحديد هدف مناسب وتوفير الحوافز الكافية لتحقيقه.
ويؤكد أن للقطاع الخاص دوراً أساسياً وفاعلاً إذا تم وضعه على الطريق الصحيح والواضح وفي ظل رعاية الدولة وتشجيعها دون تركه ينمو بصورة عشوائية وأهداف محددة وواضحة، لافتاً أن القطاع الخاص لم يحظ بالتمويل المصرفي المطلوب لإقامة وتوسيع مشاريعه ومازال المستثمر يعتمد بصورة شبه كلية على التمويل الذاتي عبر الملكية.
ويتفق مراقبون أن على خروج الدولة من الإنتاج على أن يكون دورها فقط رسم ووضع السياسات، بجانب تنظيم الاقتصاد ممثلاً في المواصفات والمقاييس والمجالس التشريعية ومجالس الطيران، وتكون مهمتها وضع اللوائح ومراقبة النشاط، في ما ثبت عن وجود عيوب وسلبيات للشركات الحكومية، فضلاً عن منافستها للقطاع الخاص، وهو قادر على القيام بهذه المهام، بجانب أن الشركات الحكومية تستخدم عطاءات حكومية تنافس القطاع الخاص، والأخير قادر على القيام بهذه المهام، وأصبحت الشركات الحكومية منافساً وتحاكي القطاع الخاص، بيد أن هذا لا يعني عدم قيام شركات قطاع عام في ظل وجود قانون شراكة بين القطاعين، ويسمى القطاع المختلط، على أن تشارك الحكومة القطاع الخاص في مجالات يخشى الدخول في أنشطة تراها الدولة ضرورية، إلا إذا عجز القطاع الخاص عنها، مثلاً، قطاع البترول قطاع حكومي وخاص، مما يشجع على القطاع المختلط، لأن فكرة الحكومة الدخول في القطاع المختلط حتى تقف الشركة على رجليها وتنسحب الحكومة، وعلى الدولة ابتكار أشياء جديدة، لأن موظفي الحكومة لا يصلحون للعمل التجاري.