حاتم حسن أحمد يتذكر: والله أيام يا زمان، حكاية من الدريسة
المكان القلعة أو الدريسة أو عبسة كلها أسماء لحي صغير جداً مكاناً، كبير جداً بحكاويه وشخوصه وتفاصيله وكثرة الأسماء تدل على عظمة المسمى او كما زعم قبلاً.
الزَمان قبيل عصر أحد الايام والمشهد يضغط على كل الحواس ويضج بالتفاصيل أدناه عمك حسن أحمد ينادي من جوف حوش البهائم أدونا موية واكل وشاي وقهوة لعثَمان الجمالي جزاه الله خير جاب لينا قصب وعدسية وشوية حطب قطن واقود، للعلم عثمان صاحب ناقة يحمل عليها أشياء متباينة نظير مقابل مادي يقل أو يكثر، يكون الرضا سيد الموقف ومناداة عمك حسن أحمد تتصل بلا توقف حتى تصل المائدة مطابقة لما هو وجبة وماء وشاي وقهوة، ويخرج عثمان يفك عقلة ناقته لمشوار جديد ومريم عوض الله تخرج لاستلام الأواني والعدسية وفي مكانها تبدأ في تقسيمها للجيران وعليك أن تستعد لرحلة طويلة ولكنها ماتعة ماتعة، وبدأ مشوار العصاري البداية دوماً بالأقرب
ناس آدم الفكي تدخل حاملاً العدسية بفرح من حاز على كاس البطولة، تسلم بصوت مشحون بالغبطة تسأل عم آدم الذي تجده منهمكاً في نجارة أحد الأعواد ليصبح يداً خشبية لإحدى معدات الزراعة جراية أو كدنكة أو طورية أو كوريك، تسأله عن خالتي فاطنة هكذا نحسها وننطقها، تسلمها العدسية ويا للعجب تملأ لك الماعون بذرة عيش الريف أو أي شئ آخر، وتعاود الكرة إلى منزل ناس نورة بت أحمد سعيد وتحت شجرته عمنا سعيد يتمدد نصف عارٍ لينال من همبريب الخريف فوق نصيبه ونورة تملأ في أزيارها المشهورة ببرودتها صيف شتاء، تضع العدسية وتخرج حاملاً في ماعونك جرم أو تمراً أو أي شئ كيف ما اتفق، وعمنا سعيد يملأ لك جيوبك بظازج اللالوب الذي تساقط عليه وتعود وتتجه هذه المرة ناس سرورة نور الدين لتجد عمنا موسى ومعه كعادته أحد العاملين معه بالصحة من ضواحي البلد وتناولك الخالة سرورة الشاي لتقدمه لهم وتعود لتجد بالوعاء بيض وكان يعرف زمانئذٍ بجنا الجداد، وتعود جذلاً لتخرج مرة أخرى لناس عبد الله سعيد وتطرق أسماعك تلاوته لسورة الكهف وهي الأثيرة عنده جالساً القرفصاء والخالة عرفة عبد القادر في حالتها الدائمة في تهدئته من تبرمه من الأصوات العالية من الحجرة المجاورة له وأبناؤه وأصدقاؤه وهم يلعبون الورق بصخب استغلالاً لخلو المنزل من البنات الأمر جعله وبيت العزاب سواء مما يجعل الخالة عرفة تشكل لجنة دائمة لتلين المواقف بين أولادها وأبيهم، تستلم العدسية وبذات ما سبق تعيده لك وهو معبأ بليمون من شجرة منزلهم تخرج وانت تخبئ من ما تحمل لك واحدة، وتعود هذه المرة مقتحماً ناس ود طه لتجده في حالة اشبه بالغليان من تاخير الخالة ام الحسين لوجبة يحملها معه الي عماله بالجنينة مع ملاحظة ان التاخير المزعوم لم يتجاوز الدقيقة والجميع متوتر من تبرم وضيق خالنا محمد طه عدا الخالة ام الحسين الذي اعتادت عليه واعتاد علي ردة فعلها ليتم افراغ الوعاء ليعود مملؤا بطماطم طازجة او اسود او شطة خضراء او بامية ساره تخرج لتعاود الدخول علي عمنا حسن قيلي تجده يعالج لاحدي الدواب والخالة كلتوم ساخرة منه عمك دكتور البهائم و يتجاهل تعليقها ويحكي لك عن براعته في علاج حالات اصعب منها وكلتوم تردد حليلو هو وتعبئ لك من اجود ما يدخر من قنديلا او بركاوي وتعود وهذه المرة بتأني وذلك للاستمتاع بما تحمل وتتجه هذه المرة صوب ناس جدي فضل المولي وحاجة بتول لتبرك حبوبة بتول بت سعيد بعصير ليمون يعصر امامك ويضاف له السكر ولكنه يضاهي في طعمه كل انواع العصائر والمشروبات كيف لا وقد تم عصره بكل الحب واضيف له قبل السكر كل الحنية الفضلت في الدنيا تخرج هذه المرة بجعل خاص بك قبل ان يتم تعبئة الماعون بانتاح السنة من السمسم او النبق او اللالوب او اللوبيا المنتجة من الجرف خاصهم تخرج وانت تزداد طولا من اطراء جدنا فضل المولي وهو يناديك يا المعزول عزل وتخرج لتعود لمربي الاجيال الخال ميرغني عوض الله وتستقبلك الخالة بتول همسا بحذر الدنيا كله فالخال نائم وهذا يمثل اعلانا لحالة الطوارئ فيتم استلام العدسية وارجاع الوعاء وعليه علبتين صلصة وقطعة صابون من حاجات التعاون التي كان يتميز بها الافندية حينها
لا يمكن ان تسمي ما حدث الا انها ظاهرة كونية وسمت ذلك الزمان فروح الإخاء هي الغالبة والعطاء هو الدين واجزال الاحسان للعطاء هي الأخلاق كاملة الدسم عدسية توزع في صحن المنزل قبل ان تدخل علي منزلك تدور علي جيرانك وتعود باخر متشابهات بلا حشف ولا سؤ كيل ولامن بها لا أذى ولا رياء ناس بسيطة يزينها حب العطاء ويلزمها رده كما الدين لصاحب الخلق مشهد لم يتجاوز ساعة زمان ولكنه ياخذ بتلابيبك نحو ابحر عميقة من الصفات المستمدة من ديننا القويم المستندة علي جميل سجايا وليس حكرا علي اسرنا بل هو سلوك جمعي لاولائك النفر عاشوا أنقياء تقاسموا كل شيء بلا تكلف او عنت
تتصل المودة قبل حصص العدسية في احايين كثيرة متجاوزة القيد المكاني لتصل شمالا نورة ام رابعة ومريم حسننا وفاطمة بت عيشة وقمبو ومريم سليم وبت سليمان وبت يوسف وطيبة عوض الله وآمنة محمود وجنوبا بت وجيني وبت حسنين وبت مالك وزينب بشري وكلتوم الدرديري ومستورة وحاجة السرة وبت الحاج وبنات الاحمر وعاشة علي وبت الفاضل في المكاوي وغربا صفية خلف الله وحواء فرح وفاطمة عبد الوهاب الخليفة وام الحسين الحكمدار وبشرية محجوب صالح وكاكا وخديجة زوجات عبد الله ابكر وانجلينا والدة فولة
مضوا جميعا الي رحمة الله التي نرجوها لهم والعافية للاحياء من اوجب حقوقهم علينا التأسي بهم والدعوة لهم بالرحمة
الذاكرة ضجت باكثر من مشهد ولكنها توقفت عند هذا المشهد وانت تمر بهذا الزقاق الخالد فينا وقد خلت المنازل منهم ومنهن ولكنهم ولكهن باقون باقيات بيننا نزين بهم وبهن ايامنا ونزيل بهم وبهن غبشة حاضرنا الاجتماعي
رجال أكارم ونساء خالدات..