منى أبو زيد تكتب: ومَا يُدريك لعلَّه يزَّكى
هناك فرق
منى أبو زيد
ومَا يُدريك لعلَّه يزَّكى
“ألق نظارتيك ما أنت أعمى.. بل نحن جوقة العميان”.. نزار قباني مخاطباً طه حسين.
ما زلت أذكر حكاية شقيقان تقدَّما لدراسة القانون بإحدى الكليات المحلية العريقة – في فترة التسعينيات – وتعرَّضا لأقسى أنواع التصنيف والإقصاء بسبب إعاقتهما البصرية.. إذ عندما جلس أحدهما لامتحان المعاينة الشخصية أخبره الدكتور المكلف بقرار عدم قبوله بسبب إعاقته، وعندما تظلَّم من القرار حدَّثه عميد الكلية عن صعوبة أن يكون له مستقبل في مهنة القانون، إذ كيف لأعمى أن يصبح أحد منسوبي الجهاز القضائي أو حتى النائب العام. أخبره بذلك ثم تجاهل أمثلة ضربها ذلك الزميل لقضاة ومشرعين مكفوفين لهم إسهاماتهم الثرة في وضع نصوص القانون الإنجليزي الذي يستند عليه القانون السوداني .
ثم شاءت إرادة الله أن ينجح ذلك الزميل في انتزاع موافقة الكلية وأن ينجح في اجتياز ابتلاءات وامتحانات مهنة القانون، وهو اليوم قانوني ضليع وسياسي شهير يشار إليه ببنان الفخر والإعجاب، يكتب مذكراته القانونية بنفسه على جهاز لاب توب به برنامج “جوس” الناطق، بل ويتفوَّق بذكائه وبراعته المهنية على الكثيرين من أقرانه وزملائه المبصرين .
ذات الزميل له شقيق تعرَّض – في ذات الكلية – لنفس المشكلة، إذ كان ترتيبه الثالث على المساق الأدبي في السودان، ولم يتم قبوله بكلية القانون إلا بعد مماحكات استمرت عدة أشهر، لكنه أثبت تفوُّقه وحصل على درجة البكالوريوس في طب الوخز بالإبر من إحدى الجامعات اليابانية، وشهادة بكالوريوس في العلاقات الدولية، وآخر ما وصلني عنه أنه كان يستعد لنيل درجة الدكتوراة في السلام وفض النزاعات من أعرق الجامعات الإنجليزية .
ليس ذلك فقط ذات الزميلين لهما شقيق ثالث يحمل نفس الإعاقة تخرج في كلية الاقتصاد من جامعة عريقة، وآخر ما علمته عنه أنه كان يعمل بجد لنيل درجة الماجستير في الدراسات الإنمائية. كما وأن الجامعات السودانية التي شهدت حكايات نجاح هؤلاء الأشقاء بها محاضرون ومساعدو تدريس من المكفوفين. وقد ظل أحد العشرة الأوائل على جمهورية السودان – لسنوات عديدة – من المكفوفين .
عندما كان ذلك الزميل يتلقى كورس علوم حاسوب في مانشيستر قابل مواطناً بريطانياً مكفوفاً ومصاباً بالصمم يناهز عمره السبعين عاماً، كان يدرس لنيل شهادة أوروبية قيمة في مجال الحاسوب، وظل يدرس لزيادة خبرته ومن ثم توسيع فرص حصوله على عمل. بينما عندنا في السودان لا يوجد قانون يحمي حقوق المكفوفين الأدبية والمادية في المؤسسات المهنية والأكاديمية، فقط بضعة سطور معممة في الدستور بلا نصوص مفصَّلة للحقوق والواجبات.
سرد الأمثلة يكرِّس لتنميط المفهوم الجائر السائد عن محدودية مقدرات المكفوفين، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين. ديفيد بلانكيت وزير الداخلية العمالي الأسبق في حكومة طوني بلير كان كفيفاً، اللورد كروس أهم المشرعين لقانون الإثبات في العالم كان كفيفاً، أعظم مقرئي القرءان الكريم مكفوفين، وفي مصر كان طه حسين الكاتب والباحث والأديب الشهير الكفيف وزيراً للمعارف. بل يكفي أن سيد الخلق الذي لا ينطق عن الهوى قد عوتب من فوق سبع سماوات في حق أدبي لرجل أعمى، عبس في وجهه وتولى.