ما بين بلديْن ومَصيريْن..!
وجهُ العاصمة الصومالية لا يُمكن مُقارنته بعاصِمة أخرى، مقديشو لا تزال طازجة… دافئة.. بجمالها وبساطتها وطيبة أهلها، لم تَزِدها التفجيرات والدم المسفوح ورائحة البارود والأشلاء إلا التمسُّك بالحياة ومُقارَعة الموت والانتصار عليه.
أمس شققنا الطريق المليء بالحواجز ونقاط التفتيش بصعوبة حتى وصلنا إلى (فيلا صوماليا) وهو مقر رئاسة الجمهورية، وكان رفيقي رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين الأستاذ يونس مجاهد، يتحدّث عن صمود أهل وشعب الصومال كل هذه السنوات، وكيف قام هذا البلد من تحت الركام، ويرد عليه زميلنا (ستيفن أوما) نائب رئيس اتحاد صحافيي شرق أفريقيا “لم تنهض مقديشو من تحت الرماد فقط، إنما تنهض بقوة كما تريان.. إنها المعجزة”..
قبل أن ندلف إلى داخل مقر رئاسة الجمهورية والحكومة وكليهما في منطقة واحدة تشبه المنطقة الخضراء في بغداد، والجنود منتشرون في كل مكان والتفتيش الدقيق لكل داخل، ابتسم زميلنا عمر الفاروق سكرتير عام نقابة الصحفيين الصوماليين وعضو المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي للصحفيين، وقال:
“قصة الصومال طويلة، وهي عِبرة لمَن يعتبِر، دولة سكانها من إثنية عرقية واحدة، أصلهم مشترك، لغتهم واحدة، دينهم واحد لا شيء يُفرِّق بينهم.. اقتتلوا حتى ملَّهُم القتال، تنازعوا حتى خرَّبوا بلادهم.. لكنهم رغم ذلك وعوا الدرس، وبدأوا الطريق الصعب جداً رويداً رويداً قد ينجحون في تجاوز كل العقبات والصعاب”..
ثم أشار ــ ونحن ندخل ــ إلى القوات الأفريقية والأممية التي تتواجد تحرس حتى بوابة الدخول إلى مكتب الرئيس ورئيس الوزراء…
طافت بذهني من خلال اللقاءات في القصر الرئاسي ومع رئيس الوزراء ووزير الإعلام ومسؤولين آخرين، صُوَر شتّى للسودان إن وقع في الفخ، ولم يتدارَكه المولى الكريم بالوفاق والتوافُق، كيف سيكون حالُنا ونحن لسنا مثل الصومال، مئات الألسُن التي نتحدّث بها، وعشرات الأعراق وبضع مئات من القبائل والسحنات والوجوه، وجوار إقليمي وما وراءه مفتوح علينا بالهجرات المتلاحقة والمتوالية، وأحزاب سياسية مُتناحرة ومختلفة أفكارها وتمويلها والهواء الذي تتنفّسه من خارج الحدود، وقيم وطنية تراجَعت إلى أدنى مستوى لها تتقارب والحضيض، وانحدار اجتماعي مُقيت تعالت فيه روح العنصر والجهة والمنطقة، وضاع فيه الولاء الأعلى الذي ينبغي أن يكون فقط لصالح الوطن..
تجربة الصومال هي عظة لمن يَعتبِر كمال قال زميلُنا الصحفي الصومالي الكبير، هل كُنّا نقترب من هذا المصير، وإن حدث كيف سيكون مآلنا ومصير أهلنا؟ هل سيكون عدد الفارّين من النزاع والمُواجَهات والحروب أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون صومالي فرّوا من بلادهم كلاجئين منذ 1991؟ مع العلم أن عدد سكان الصومال آنئذٍ حوالي 12 مليون نسمة، وكم ستكون أرقام الضحايا من قتلى ومفقودين؟ الصومال فقدت ما يقارب المليوني شخص، وتدمّرت كل البنى التحتية من طُرُق وجسور ومحطات كهرباء ومياه ومقار الدولة من مرافق رسمية ومدارس ومستشفيات وبنوك، ولم يبق من الدولة إلا حُطام في حُطام..
ظهر أباطرة الحرب في الصومال بعد أن انهار الجيش الوطني والشرطة والقوى الأمنية، وانقسم المجتمع على نفسه مُوزَّعاً في ولاءاته وانتماءاته الجديدة المُحْتَكِمة إلى فوهة البندقية والرباط الأدنى للعشيرة ..!
ما الذي كان سيحدُث لنا إن وصلنا إلى هذا المصير؟ فالنار التي قَضَت على الصومال كانت من مُستَصغَرِ الشرر، والحرب أولها كلام، كانت هناك قوى دولية وإقليمية عديدة تُراهِن على أن مُستصغَر الشرر السوداني سيتحول لنار لاهبة تقضي على الأخضر واليابس، وتُدمّر كل شيء، ولن يبقى من السودان إلا اسمه وتاريخ ترابه ومن توزّعوا في المهاجر وقبور من يموتون، لله لطفه وفضله دائماً، لو تمدّد هذا الشعور السالب الذي نراه هذه الأيام في الخرطوم وسوء تقديرات السياسيين وطمعهم وطموحاتهم التي لا نهاية لسقوفها، سنسقُط في ذات الهُوّة التي سقط فيها الصومال، ولنستفِد من لُطف الله أننا حتى اللحظة هناك ما يكبح انزلاقنا إلى الوحل، لو تمكّن أهل السياسة والكياسة والرئاسة من إدارة الشأن العام بالحكمة والتجرُّد الخالِص لوجهِ الله والوطن، ستنجو بلادُنا من مصائر دول حولنا سقطت في المستنقع وكابوس النار… قلتُ لرئيس الوزراء الصومالي حسن علي خيري (ما شاء الله تعافَت البلاد، وذهبت الحرب الأهلية إلا من أعمال حركة الشباب المسلمين…. ) قاطعني:
“لم يكن ذلك يسيراً أبداً، إرادة الشعوب لا تُقهَر لكنها لا تُبنى بسهولة.. الأوطان غالية إذا ذهبت لن تعود.. هذه كلمة السر عندنا..”
خرجنا إلى طرق العاصمة مقديشو مرة أخرى، وهي تدبُّ بالحياة، وتنبُض بالجديد، وصوت فنانة الصومال الخالدة الراحلة (حليمة خليف عمر مقول – التي غنّت من قبل أغنية البنات عندنا سايق العظمة سافر خلاني) من مذياع السيارة تصدح بأغنيتها الشهيرة باللغة الصومالية (هل يُمكن أن تكتب الحبَّ بدمائك).. كان السودان حاضراً في الثقافة والفن والغناء والموسيقى والموت أيضاً…!