منى أبو زيد تكتب: ضَميـر المُتكلِّم وأحكام الغائب..!
هناك فرق
منى أبو زيد
ضَميـر المُتكلِّم وأحكام الغائب..!
“الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة”.. أورهان باموق..!
أبرع الكتاب الذين استخدموا ضمير المتكلم في سرد الرواية هو الأمريكي العظيم “وليم فولكنر” الذي وصف بعض النقاد رائعته “الصخب والعنف” برواية الروائيين ومعجزة من معجزات الخيال، اعتبروها كذلك من عدة وجوه أهمها التكنيك الذي اتبعه في تواتر الأحداث على عدة مستويات من الزمن والوعي. و”فولكنر” هو أول من لجأ إلى الوسائل “الطباعية” في التعبير عن أدائه الفني البالغ التعقيد، ومن ذلك استخدامه للحروف المائلة كلما انعطف السرد على نحو مفاجئ من الحاضر إلى الماضي، أو من الماضي إلى الماضي الأبعد، أو من القول الواعي إلى اللا واعي، أو من الحدث الآني إلى الحدث المستدعَى من بين طيات الذاكرة.. وهكذا..!
ومن تلك الوجوه استخدامه الفريد لعلامات الترقيم وفق رغبته كمؤلف، فعلى سبيل المثال كلما انتقل الفعل من الحدث المباشر إلى الحدث المُستدعَى من الذاكرة انعدم الترقيم عند “فولكنر”، لأن الترقيم من وجهة نظره يعطي القاريء إيحاءً بالمنطقية التي تنتفي عندما تتداخل الأفعال والأقوال المباشرة والمستذكرة..!
وعلى الرغم من حصوله على جائزة نوبل للآداب في العام 1950م تكريماً على إنتاج أكثر من ربع قرن في كتابة الرواية – قضاها منزوياً في بلدة صغيرة من بلدات الجنوب الأمريكي – إلا أنّ قراءً كثرا كانوا ولا يزالون يرون في أسلوبه المعقد فوضى ذهنية وعاطفية لا أكثر..!
ومن الأدباء الذين برعوا في تقنية “ضمير المتكلم” الروائي والمحلل الفذ لتناقضات النفس الإنسانية “آرنست همنجواي” الذي حاز على جائزة نوبل في الآداب بعد أربع سنوات من حصول “فولكنر” عليها. استخدم “همنجواي” تقنية المتكلم في سرد رائعته “ولا تزال الشمس تشرق” حيث يروي حكاياتها سارد متخيَّل “كاتب شاب غير موهوب يصف اشتعال الحب في نفسه وعجزه عن الوصول إلى غاياته الكبيرة”..!
وليس أقل منهم أعظم كتاب الشمال الأوروبي “كنوت هامسون” الذي حاز على جائزة نوبل للآداب قبل “فولكنر” و”همنجواي” بأكثر من ثلاثين عاماً، والذي نصَّب الجوع بطلاً قاسياً وفظيعاً في رائعته الخالدة “الجوع”. وصف “هامبسون” إحباط الفقر وآلام الجوع المبرحة على لسان صحفي شاب لا يعلم القاريء شيئاً عن الأسباب التي دفعت به إلى كل ذلك العوز والفقر، لكنه يعيش معه تلك اللحظات في التحام عاطفي جعل منه “هامبسون” ممكناً..!
على صعيد آخر، ما زلتُ تحت تأثير – إعادة قراءة مرتجلة – لرواية “قطرات متناثرة” للكاتبة السودانية الذكية “غادة الحاج عمر الشيخ”، مزيج من الشعور بالشبع والخدر اللذيذ، والانفعال العاطفي بالتأثير المُسكر لـخمر السَّرد المعتق بضمير المتكلم. أحداث، لواعج، انفعالات، خيبات وإشراقات قصة حب كبيرة جمعت بين طالبة جامعية وزميل لها ظن كلاهما أن الآخر قد خذله، أما ثالث أضلاع المثلث فصديقة سوء..!
بين أروقة كلية القانون بجامعة الخرطوم عاش “ضياء” و”سعاد” و”الساردة” المخذولة في حبها الكبير – عاشوا – حكاية حب الجامعة المستحيل الذي يحدث كل يوم، لكن ضمير المتكلم – في حبكة غادة – يقنع القارئ بأنها حقيقة، وأن أبطالها الحقيقيين أزواج تعساء كانوا عشاقاً سعداء ثم أُجبروا على “التَقاعد” بحكم القانون. هنيئاً لغادة بهذا القلم الذي يمسك بتلابيب القارئ وينصبه شريكاً أصيلاً في أحداثه النبيلة، ولا يتركه إلا بعد أن يرده – إلى واقع الحال – رداً جميلاً..!