يروى أن
الأمين علي حسن
مع رئيس القضاء.. رحلة الأيام الأربعة (2)
تسعة من الشباب المهرة أحضروا خصيصاً لضرب النحاس المكون من خمس قطع كبيرة رغم أنه في الماضي كان يتكون من سبع قطع ولكن نسبة للحرب التي دارت بين الكبابيش بقيادة الشيخ صالح جلطة والمهدية.. بعد مقتل شقيقه الشيخ التوم ناظر القبيلة في الأبيض على يد الأنصار، حيث قاد تمرداً بقبيلته بعد مقتل شقيقه إلى أن قتل هو الآخر بجبل العين في أقصى الشمال، وقبل مقتله قام بإخفاء النحاس رمز وشعار القبيلة حتى لا يقع في يد الأنصار، وفي سنوات قادمات عُثر على خمسة قطع ومازالت قطعتان مفقودتان حتى اليوم.
وللنحاس طقوس وتقاليد وأعراف ظل الكبابيش يحافظون عليها لأكثر من خمسة قرون من الزمان فلا يضرب إلا في المناسبات الكبرى أو إعلان الحرب أو غيرها من الأحداث الكبيرة التي تهم كل البادية وعندما يتم إخراجه من منزل الناظر تنحر له ناقة وعندما يعود تنحر له أخرى وهكذا ظلوا يحافظون على هذه العادة.
أحد ضباط الشرطة الكبار رأيته منفعلاً في حالة لا إرادية عندما ضُرب النحاس وذهب نحوه ملوحاً بعصاه حتى تساقطت دموعه في حالة انفعال لا إرادي علق عليه أحدهم قائلاً (حرّم الزول دا فارس) رغم أنه لا يعرفه ولم يقابله من قبل ولكن الموقف هو الذي جعله يصدر هذا الحكم.
رجل آخر كفيف يقوده ابنه ويتجه به نحو النحاس منفعلاً رغم كبر سنه وما فعلته به السنين والأيام، يعرض بيده التي انهكها تطاول السنوات ويبشر بها رفم عجزها، ولكنه حينها امتلأ عزاً وبسالةً بل تدفّق في عروقه دمٌ متجدد نشاطاً وحيويةً، بلا شك عاد بذاكرته دهوراً بعيدة وبصر بقلبه العرضة وسط الدارة وتنبّر سراً قائلاً (ديل أهلي)..
شاعرا الدوبيت محمد سعيد السميتاوي ومحمد عبد الله الجضيع كانا نجمين في الحفل لم يستطيعا إكمال ما لديهما بسبب تدافع الحضور وحالات الانفعالات اللا إرادية رغم ارتفاع درجة الحرارة والوقوف لساعات لاستقبال الضيف الزائر.. عادا في المساء في جلسة خاصة بالضيوف وبعيداً عن أعين الجمهور، نثرا الدرر من الدوبيت وكأنهما أرادا أن يقولا هذا ما انقطع من حديث أثناء الاحتفال.
في الصباح الباكر تجهزت المنطقة كلها لمشاهدة سباق الهجن. وحب الأبل لديهم قصة وحكاية أخرى لا يضاهيها حب، وقديماً قال شاعرهم:
هبارة الزرار فوق ميركا دون تصريح
عليها انقد واوير البروقو لويح
يومها التبقى مقروعة ومع الدعكاب حوارها يصيح
دريز التلبن سوق الشقيق من ريح
ومن حبهم وتعظيمهم لها يقول حتى إذا ارادت الذهاب للولايات المتحدة الأمريكية (ميركا= أمريكا) لا تحتاج لإذن أو تصريح.. ومن محاسن الصدف أننا تجهزنا للذهاب إلى ميدان السباق زمن الدعكاب الذي قصده شاعرهم هذا. وهو الفترة ما قبل صلاة الفجر بقليل لنجد أكثر من مئتي سيارة هناك تقف في انتظار انطلاق السباق والذي هو الآخر لا ينطلق إلا بحضور الضيوف.
أكثر من ستين بعيراً حضرت من مناطق مختلفة كل واحد من أصحاب هذه الجمال كان يمني نفسه بأن يكون هو الفائز. انتهى السباق وحصل خمسة منهم على جوائز نقدية وشهادات تقديرية، وكان أصحاب المراكز المتقدّمة حديث الناس حتى غادرنا.
من جماليات هذه الرحلة بأنها أتاحت فرصة للضيوف للتعرّف على هذه البادية الممتدة بإنسانها وثقافاتها وتراثها وكيف يحتفي الناس هنا بالقادم إليهم.
ليومين كاملين، قضاهما الوفد في حمرة الشيخ، كانت كل المنطقة بشيبها وشبابها حاضرة في منزل الناظر حسن التوم حسن لتقف وتسهر لإكرام الضيوف وخدمتهم، أجل كل شئ إلا خدمة الضيوف.
على المستوى الشخصي أتيحت لي الفرصة أن أجالس العمدة سالم صالح محمد التوم أو كما كان يسمى شيخ النوارب حسب المسميات القديمة وهو رجل لا يمل. يحدثك عن التاريخ وعن وتجربة نصف قرن من الزمان في خدمة أهله في هذه البادية الممتدة وكان يطوف كل هذه الأراضي الواسعة على ظهر بعير يقطع به المسافات من أم سنطة حتى أم مندرابة شرقاً وحتى جبل العين شمالاً يقضي الأيام والشهور يعالج ويتابع قضايا أهله وتفاصيل حياتهم المتقلبة بين المخارف والمدامر.. كنت أظنه يرفض فكرة المحاكم المستقرة لأن البعض كان يرى أنها خصماً على المحاكم الشعبية والأهلية ولكن العمدة سالم صالح بتجربته وخبرته الطويلة وجدته فرحاً يقول لي: (والله ريحونا راحة زمان العايز شهادة ولا أقل خدمة إلا يسافر سودري ولا الأبيض هسي الخدمة جاتنا في الحمرة وأم بادر دي نعمة كبيرة خلاص).. وهكذا تكاملت رحلة الأيام الأربعة بجمالها وروعتها.