منى أبو زيد تكتب: في الحرب والسلام..!
هناك فرق
منى أبو زيد
في الحرب والسلام..!
“كم هي صادقة – على الرغم من قسوتها – نبوءات الأدب”.. الكاتبة..!
تلك المفارقة – تعاقب العاصفة والسكون على الجسم الجغرافي الواحد – التي تُجسِّدها أفعال الساسة ويُصوِّرها أبطال الأدب، تؤكد على أن الفعل السياسي هو وعاء المنتج الثقافي، وأن الموقف السياسي من مبدأ الحرب في بلد ما هو الوجه الآخر لثقافة شعبها حول مفهوم السلام. فالموقف السياسي إذن هو صنيع الفكرة الثقافية..!
رواية “الحرب والسلام” لتولستوي قدمت رؤية فنية فلسفية – عبر منظار الحب والكراهية – لحكايات الأحداث الكبيرة التي أثرت في أو تأثرت بمتوالية الحرب والسلام في روسيا القرن التاسع عشر. وهكذا صنعت ثقافة “اللا عنف” التي أسس لها أدب تولستوي منهج “اللا عنف” الذي تنبته سياسة المهاتما غاندي الذي تأثر بفكر تولستوي ورؤيته السلمية لصراع الإنسان على السلطة..!
في سودان البخاتة هذا أثرت حزمة رؤى وأدلجات بعينها على التوجه السياسي، ثم قادت دفته نحو العنف كحل، فكانت الحرب في أقبح أثوابها العرقية والدينية والثقافية، ثم جاء السلام كحفيد شرعي لتماسك الرؤى الثقافية المُناهضة للحرب والتي صمدت بنجاح في وجه فلسفة العنف..!
تأمل في ملامح ذلك المُواطن الإنسان أولاً، ذلك الكائن الضاج بالتناقُضات، ثم أمعن النظر في تلك الملامح السياسية التي تتحكّم بمصائر الخلائق، حرباً فسلاماً فوقوفاً على شفا حفرة العُنف من جديد. ستعيدك تأمُّلاتك في أدب السياسة إلى سياسة الأدب تارةً أخرى..!
إنه بالضبط ذات الوعاء الفلسفي لقصة “سيد الذباب” لحامل الأوسكار الإنجليزي “وليم غولدينغ”، هو ذات الواقع السياسي والاجتماعي والأخلاقي لطقوس ومناخات ما قبل وأثناء وبعد الحروب. أوليس الأدب إذن هو وعاء الحقيقة الإنسانية..!
فلسفة غولدينغ وترميزه لسلوك القيادات السياسية جاء مُضمّناً في شخصيتي جاك ورالف، القائدين الصغيرين اللذين سقطت بهما الطائرة في جزيرة نائية مع مجموعة من أقرانهما بعد أن مات جميع البالغين الذين كانوا على متنها ثم تركوهما ليصنعا مصيرهما بالاعتماد على الفطرة..!
“رالف” الذي تزعم أصدقاءه المنكوبين فوجئ بانقلابهم عليه في حركة تمرد بقيادة “جاك”، وذعر هو ومن بقوا على ولائهم له من فكرة إعلان الحرب عليهم، ثم صعقوا من حقيقة كونهم قد أضحوا مُطاردين عبر دروب الجزيرة. أذهلهم جداً أنّ أصدقاء الأمس قد باتوا من القسوة والتهوُّر بحيث أحرقوا الغابة – مصدر الثمار والطعام الوحيد لجميع سكان الجزيرة – فقط لإجبارهم على الظهور “عليهم إذن وعلى أعدائهم بقوانين شريعة الغاب”..!
حكاية أولئك الأطفال تنتهي بمشهد جماعي مؤثر بعد اكتشافهم حقيقة تحولهم إلى قتلة. عادت الإنسانية إلى أبطال الصراع على السلطة فعادوا مجرد صغار وبكوا وهم يهرعون إلى قبطان سفينة النجاة..!
هل تجاريني إذا ما قلت لك إن حكاية “سيد الذباب” تشبه حكايات العنف السياسي في بلادنا؟. وإن كنت لا أدري هل هي نظرة الأدب الثاقبة إلى فظائع الواقع أم هي سطوة الواقع على أفكار الأدب؟. على كلٍّ حكاية “سيد الذباب” انتهت على خير وسلام. فماذا عن حكايتنا نحن..!