كنوز محبة
السر السيد
وشوشني العبير
الأغنية السودانية في أغلبها شعبية وحديثة، عامية وفصيحة، غنية بالمعارف والأخيلة المتجاوزة وتتوفر على مقدرة خلاقة في الحفر في الأساليب البديعة وفى الحفر في ابتكار العناوين الموحية المخلقة بقدر متساوق بين الغموض والوضوح.. البساطة والتعقيد فنجد من عناوين الاغاني السودانية التي تشي ببعض ما ذهبنا إليه “زورق الألحان، والفراش الحائر، والمسافة، وفلق الصباح، وحروف للعزيزة وغيرها، لذلك كانت الأغنية ولا زالت رفيقا حميما للسودانيين في حياتهم اليومية بحلوها ومُرها، بل كانت مرتكزاً أصيلاً من مرتكزات أمنهم الشخصي والمجتمعي بفيوضاتها المتنوعة التي تنهمر على حقول وجداناتهم وأرواحهم وأجسادهم فتمنحها الاخضرار والتفتح.. وشوشني العبير أو “الحرير” كما سماها شاعرها.. أغنية كتبها الشاعر الشفيف الغريد ابو آمنة حامد وغناها الفنان المعتق البلبل الصداح صلاح ابن البادية وسجلتها الإذاعة القومية في سبعينات القرن الماضي ونشرتها في القرى والحضر.. الحرير، الأغنية المكرسة بكامل بهائها ونصاعتها، مفردة وصورا ولحنا وأداءً (في مديح “الأنوثة”) تبدأ بجملة “وشوشني العبير” والتي عندها ومنها واتكاء على ما ترن به مفردة وشوشني من جرس يصنع الرعشة وما تعنيه من معنى يجمع بين “الهمس بالكلام والإغراء”، ينفجر فضاء الأغنية موزعا بين حوارية صوت الكورس “ثنائي النغم” وصوت المغنى والموسيقى المصاحبة وكلام الشاعر والمستمع/ المستمعة، فنلمس الأنوثة في صفائها، ليس فقط في تمظهرها في حبيبة الشاعر وإنما في انسرابها في الوجود كله، فالأنوثة التي تمدحها الأغنية تبدأ من الحبيبة ولا تنتهي عندها مصورة بخيال صوفي جامح ما تعيشه مفردات الوجود من تآزر وتكامل وتحالف ينهض على المحبة ويفيض بها، فبين بكاء الشاعر/ العاشق عندما وشوشه العبير وارتعشت بكفه يد الحرير..
وشوشني العبير.. فانتشيت
ساقني الهوى فما أبيت
يد الحرير ارتعشت بكفي.. بكيت
بكيت من رعشتها.. بكيت.
وحتى بكائه من رقة الغيثار الذي يبكي حنينا…
فإن روى الغيثار سر حبي
قولوا له ما قلت.. ما رويت
لكنه حين بكى.. بكى حنينا
بكيت من رقته.. بكيت..
ومن هناك إلى هنا وحيث لا هنا ولا هناك تضج الأغنية ابتهاجا وحنانا وأنوثة تزحزح الجسد الأنثوي عن صورته النمطية وتصعد به عالياً، عالياً، فنرى حبيبة الشاعر/العاشق، صبية يشتهيها العطر، وهي اغرودة للعذارى ورنة الأفراح، وهي أنيقة العطايا وهي العبق الصادح وهي محراب العاشق، بل مدينته التي مشى في دروبها وسافر في عيونها دهوراً، لذلك أضحت عنده سؤالاً أبدياً وجودياً!! فهو يحتويها ولا يحتويها، وهو يحكي عنها مُحتمياً بتشظيها في العطر وفي الموسيقى وفي العبير وفي الحرير وفي العبق وفي الليل، ومع ذلك لا يبوح بحبها الكلي العميق، وكيف له ذلك وهو “القاعد على اللهب” وحبيبته كما جاء في بعض ما حكى غيمة في فضاء الأنوثة المتوهج، تستقى منه وتسقيه..
حبيبتي اغرودة العذارى
ورنة الأفراح إن غنيت
حبيبتي أنيقة العطايا
تهمي هوى إذا أنا هميت
أجمل منها ما احتوى فؤادي
العبق الصادح ما احتويت..
وشوشني العبير أو “الحرير”، بالنظر إليها في سياق الحياة الاجتماعية بالسودان تكشف عن مدى الاستنارة والحداثة وسعة الخيال والأفق الذي كنا نتوفر عليه وتكشف من جانب آخر عن مدى الجدب وضيق الخيال وتمدد القبح والبؤس الذي نعيشه الآن، ومن منا في مقدوره أن ينسى عمليات “الختان الفرعوني” التي طالت الكثير من الأغنيات السودانية وهذه الأغنية ذات يوم وجروحها لم تندمل.