ما حدث من تأخير وتعقيد في تكوين سلطات الفترة الانتقالية، وخاصة المجلس السيادي، لهو دليل واضح جداً على أن الأحزاب والتنظيمات السياسية لا تزال في غيبوبتها ولم تتعلّم الدروس، فهي تتكالب على السلطة وتطمع في كراسي الحُكم أكثر من كونها تقوم على مبادئ والتزامات سياسية تُعزّز المضي في طريق الديمقراطية بسلاسة وتقوّي من أساسات البناء لها، فالطريق نحو الديمقراطية والممارسة الراشدة لها درب طويل وشاق، بتنا نشك أن أحزابنا والكيانات السياسية التي ظهرت على واجهة الأحداث، مُؤهّلة لها وتقوم بواجباتها في هذا المضمار الصعب، فقوى الحرية والتغيير التي هي شريك في الحكُم، تقدم الآن مثالاً سيئاً للغاية لا يشبه الشعارات التي رُفعت ولا يتقارَب مع التطلّعات التي علّقتها جماهيرها عليها في قيادة الفترة الانتقالية مع العسكريين، وبذر بذرة الإصلاح السياسي والقُدوة الحسنة في التجربة السياسية السودانية الجديدة مع استهلال الديمقراطية الرابعة في تاريخنا الوطني.
مع أن الفُرَص كانت مُتاحة منذ اليوم الأول للحرية والتغيير أن تكون على قدر التحدّي وتتجرّد من عبادة الذات السياسية، وتشرع مكوناتها بعمل نزيهٍ في تشييد الصرح الديمقراطي الحقيقي، فإذا بها تتقاصر دون ذلك، وتدبّ بينها الخلافات الحادة والتجاذُبات والأحقاد، فليت الخلافات كانت حول البرامج والسياسات والأفكار، فلو كانت كذلك لعُذِرت وما تحدّث أحدٌ، ولقال الناس هذه موجبات العملية الديمقراطية، وفي الاختلاف الفكري والسياسي حول الأهداف والوسائل لتنفيذ البرامج نعمة كبيرة للسودان والسودانيين، لكن خلافاتهم للأسف حول الغنائم وأسلاب السلطة السابقة، مَن الذي يُعيَّن في المجلس السيادي؟ ومَن الذي سيدخُل الوزارة؟ وكيف تكون المحاصصات واقتسام الكيكة..؟!
هذا التعطُّش المذموم والجوع الكافِر للسلطة، لا يليقُ بالتجربة الحالية التي وجدت حتى اللحظة دعماً سياسياً إقليمياً ودولياً، وهناك قطاعات من المواطنين تنظر إليها وكأنها طوق النجاة من المتاهة التي عاشتها بلادنا منذ استقلالها، فلو كانت قوى إعلان الحرية والتغيير على قلب رجل واحد أو مُتّفقة على الحد الأدنى المعقول لاتفقت مُكوّناتها دون طمع أو شَرَهٍ أو أنانية سياسية، لكنها في أول اختبار لم تستطع لجم أحصنة المطامع ووأد الأجندات الحزبية الضيّقة، واستنْسَخَت أسوأ ما حدَث في جبهة الهيئات قبل خمسة وخمسين عاماً، وأقبح ما قام به التجمُّع الوطني في 1985م، من تكالُب مُقيت على السلطة ومحاولة إزاحة أطراف، والتآمر على حلفاء، وإزاحة من لا ترغب فيه بعض مراكز القوى المُتحكّمة في قرار الحرية والتغيير.
في ظل حالة الاستقطاب الحادة التي نُعايشها ونعيشُها الآن، لابد لقوى إعلان الحرية أن تنظر إلى مؤيّديها وحالة الإحباط العامّة التي ضربتها، واليأس الذي شعر به الشباب من غير المُنتمِين سياسياً وكانوا يُحسنون ظنّاً في القيادات التي قدّموها وائتمنوها على أحلامهم، فلا يمكن أن تستمر هذه الطريقة المنفّرة في إدارة الشأن السياسي، بإثارة الأغبان الجهوية والقِبلية والمناطِقية كما ظهرت في طريقة المُحاصَصات او التعامُل مع الجبهة الثورية، وهي مكون من مكونات الحرية والتغيير بلغ الخلاف معها مرحلة اللاعودة، وقد لا تلتقي هذه المكونات مرة أخرى في صعيد التنسيق والتحالف.. فهل يستطيع قادة الحرية والتغيير محو الصورة الشائهة جداً التي قدّموها لجماهيرهم أولاً قبل الشعب السوداني الذي وقف يتفرّج عليهم..؟
المطلوب في هذه المرحلة أن تُبعَد تماماً كل حظوظ الأنفس والإحساس الشّرِه والرغبة المتوحّشة في السلطة واقتسام المواقع الحكومية والوزارية وغيرها، هي مرحلة بناء الثقة بين السودانيين وتقريب الشقة وتقليل مساحات الخلاف وجمع الصف، فمن يعْجَز عن جمع صفه، وتنقية خلافاته واكتساب الثقة بين مكوناته، لهو أعجز عن حل مشكلات الناس وتوحيد كلمتهم وجمعهم على مسار واحد..! تلك هي أزمة الحرية والتغيير التي أماطت السلطة وشهوتها العارمة اللثام عن الوجه الحقيقي …!