حينما فشلت النخب السياسية المركزية في خرطوم ستينات القرن الماضي في تجاوز خلافاتها وتصدع النظام الديمقراطي بسبب الأطماع الذاتية والمصالح الحزبية، وأصبحت الساحة السياسية سوقاً للشراء والبيع لدول الإقليم، وسلم عبد الله خليل الحكم طوعاً إلى العسكر، كتب المحامي ورئيس الوزراء من بعد ذلك الرشيد الطاهر بكر مقالة رصينة جاء فيها (عندما تختفي محاسن النظام الديمقراطي ولا تظهر سوى معايبه فسيندفع المحكومون في كل طريق بحثاً عن نظام آخر حدث هذا في مصر وحدث في العراق وحدث في باكستان وسيحدث في كل بلاد تسيء فهم النظام الديمقراطي وتسيء ممارسته، فهل يعي المسؤولون هذه الحقيقة الكبيرة؟ وهل يدركون قبل فوات الأوان أننا نقف على حافة الهاوية وليتهم يعلمون)..
ما أشبه الليلة بالبارحة، بعد ثلاثين عاماً من الحكم العسكري القابض عادت رياح الديمقراطية تهب في سماء البلاد وتبث العافية في الجسد العليل، ولكن مقدمات النظام الديمقراطي الحالي تشبه نهايات الأنظمة الديمقراطية الثلاثة التي تعاقبت على بلادنا بعد الاستقلال وحتى فاصلة انقلاب عبود، وبعد أكتوبر حتى فاصلة انقلاب نميري، وبعد الانتفاضة ٨٥ وحتى انقلاب البشير ٨٩.
خلافات وتصدعات داخل تحالف قوى الحرية والتغيير خرجت على إثره الحركات المسلحة من الملعب وجلست (تلاعن) حلفاءها تصفهم طوراً بخيانة العهود، وحيناً بالهرولة نحو مقاعد السلطة وترك الرفاق على الرصيف جالسين.
وتمددت الخلافات في جسد تجمع المهنيين الذي يسيطر عليه الحزب الشيوعي ويديره من وراء ستار، وهو تنظيم نقابي في الظل نشأ في ظروف النضال ضد النظام السابق، ونجح في تعبئة الشارع لهدف وحيد إسقاط النظام، ولكنه فشل الآن في قيادة الثورة سياسياً، وظهرت التصدعات العميقة والشروخات التي تهدد مستقبل التجربة الديمقراطية في بلادنا، وعجز الحزب الشيوعي في الإمساك بمجاديف مركب الحكومة الانتقالية الذي تتقاذفه الأمواج والرياح والحزب الشيوعي نفسه يفتقر للقيادة السياسية الحكيمة الراشدة بعد رحيل نقد، وإخراج الشفيع خضر وكمال الجزولي من حزبهما من غير حق.
في مثل هذه اليوم كان منتظراً أداء مجلس السيادة القسم أمام رئيس القضاء، ولكن سوء التقدير وضعف الحس السياسي والأطماع وشح النفس أجّل تكوين المجلس السيادي لمدة ٤٨ ساعة في انتظار تحالف قوى الحرية والتغيير الاتفاق على ممثليهم في المجلس، وبدأت الصراعات ما بين تحالف قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين بترشيح محمد الحسن التعايشي الذي تم إقصاء الشاب من داخل حزب الأمة ومن آل المهدي الذين لا يطيقون رؤية أبناء الخليفة عبد الله التعايشي يصعدون إلى أعلى، وتبع ذلك اعتذار د. فدوى عبد الرحمن علي طه التي يقف من ورائها الحزب الشيوعي ضمن شيوعيين كُثر دفع بهم الحزب للإمساك بتلابيب السلطة، ولكنهم يسلكون دروباً عديدة وواجهات شتى، وأخيرا أطلت قضية ترشيح طه الحسين اسحاق ممثل الحزب الشيوعي الآخر والذي تم رفضه علناً من بقية واجهات الحزب الشيوعي مثل شبكة الصحافيين والبياطرة الديمقراطيين وبقية الأجسام واللافتات.
وتم تأجيل تشكيل المجلس السيادي الذي بدأ هزاله وشحوبه من خلال مكونه المدني، حيث دفع حزب الأمة بشيخ تجاوز الثمانين من العمر لتمثيل شرق السودان وجاء الحزب الشيوعي بعائشة موسى وهي امرأة فوق الـ٧٥ عاماً، وجاء الاتحادي الديمقراطي بشاب دون الخمسين عاماً في انتظار تعيين الشيوعي الأخير من دارفور، يصبح هذا المجلس بلا نجوم وبلا بريق، وكان حرياً بالأحزاب أن تقدم أسماء لها بريق وعطاء يعرفها الشعب بدلاً من جعل المجلس السيادي قعيداً بشيوخه من المكون المدني ومن قيادات الظل.
إذا كانت تجربة تكوين المجلس السيادي قد مرّت بهذا العُسر فكيف يتم تشكيل مجلس الوزراء؟
وهل يترك لحمدوك اختيار حكومته أم تمضي المحاصصة المنكورة بذات طريقة ما جرى في اختيار وتكوين المجلس السيادي؟