العدالة الانتقالية.. إمكانية استنباط أنموذج سوداني
العدالة الانتقالية.. إمكانية استنباط أنموذج سوداني
الخرطوم- صلاح مختار
اتفق رئيس البعثة الأممية بالسودان، فولكر بيرتس مع كمال الجزولي المحامي, على أن السودان ليس ملزماً بالأخذ بالتجارب العالمية في مجال العدالة الانتقالية، بل من حقه استنباط أنموذجه الخاص المستمد من ثقافاته المحلية وتراثه الشعبي. كما اتفقا على أمرين جوهريين، أولهما استحالة تطبيق العدالة الانتقالية في غياب الانتقال، وثانيهما أن السودان ليس ملزماً بالأخذ بالتجارب العالمية في تطبيق العدالة الانتقالية وأن من حق السودان، بل من واجبه، عندما يحين أوان التطبيق، استلهام خبرات شعوبه الثرة وموروثاته العظيمة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق والشرق وغيرها، التي قال إنها تزخر بقيم التعافي والتعايش السلمي، مع الحرص على إنصاف المظلومين ومعاقبة المجرمين. إذاً كيف نستنبط تجربة سودانية خالصة لتحقيق العدالة الانتقالية؟
ممكن ومهم
يرى مدير مركز كاشا لفض النزاعات وتعزيز السلام والتنمية د. عبد الحميد موسى كاشا, أن القوانين والأعراف ليست منزلة أو سماوية حتى تكون جامدة, لأنها استندت على تجارب الشعوب وثقافتها التي من صنع البشر, وعملية استنباط أنموذج خاص للعدالة الانتقالية هي ممكنة ومهمة جداً حسب ما يرونه مناسباً لمجتمعاتهم .ولكنه أكد لـ(الصيحة) أن تجارب الشعوب قد يجانبها نوع من الأخطاء, بيد أنه قال في مثل شعب السودان كل ثقافاته قائمة على تطبيق مفهوم الانتقال, بين المكوِّنات السودانية المختلفة, مشيراً للتداخل الأثني واللغوي والثقافي والاجتماعي, وقال: الآن هنالك تداخل بين المجتمع المسلم مع غيره من المسلمين. قال: هنالك تعايش سلمي بينهما, بحكم الموروث والمكوِّنات الموجودة . لذلك لا غرابة إذا كانت هنالك نزاعات أو أخطاء وحروبات نشأت بين كافة المجتمعات الموجودة, مبيِّناً أن نظرة الناس لها تنبع من ثقافاتهم, وعاداتهم, وتقاليدهم, وموروثاتهم الاجتماعية, التي هي -أصلاً- كانت موجودة وعاشوها منذ قديم الزمان.
تجربة جديدة
وقال كاشا: الإدارة الأهلية عندما جاءت كمفهوم جاء بها الأجانب شعروا أن هذا المجتمع الذي لا يمتلك أي شرطة أو نيابات أو محاكم كيف يتم فض نزاعاتهم؟ بالتالي هم استندوا على موروثاتهم اجتهدوا عليها. بالتالي جاءوا بالإدارة الأهلية كتنظيم يحقق بعض الأشياء المرتبطة بالجوانب الأمنية, والاجتماعية وفض النزاعات, وتحقيق السلام الاجتماعي بين كافة المكوِّنات. ورأى أن السودان يمكنه أن يخضع لتجربة جديدة فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية, وهذا لا يعني الإفلات من العقاب, بمفهومه الضيِّق. وأشار إلى أن النزاعات الكبيرة التي تدخل فيها القبائل بأجندات وتداخلات مختلفة, حتى يتم تحقيق السلام لابد من أن نلجأ لفهم جديد غير تقليدي مثلما يجري في العالم الموجود. لأن العالم اليوم مختلف ولديه أجنداته المختلفة فيما يتعلق النظام, وبالحوار والسباق حول تحقيق المصالح, وقال أنت ترى كثرة زيارات المبتعثين للسودان, ليسوا من أجل أولوية قضايا السودان, وإنما لديهم أجندات ومصالحهم في كل دول القارة الأفريقية, ودونك المحكمة الجنائية التي لم تطبق إلا جزءاً ضئيلاً لا تساوي أي شي, لأنها أي الجنائية مستهدف بها الشعوب النامية والمقهورة والمستضعفة من أجل الاستحواذ على مواردهم وإذلالهم. ولكنه قال: نحن في السودان نختلف كثيراً في منهجنا وفي طريقة تعايشنا, لذلك نحن مع مفهوم العدالة الانتقالية الجديد والواسع, الذي يمكن به أن نتجاوز كل الخلافات بالتراضي وإزالة الغبن, أيضاً هذا لا يعني إعادة الحقوق, إذا كانت هنالك أي جرائم تصل مرحلة العقوبات, يمكن النظر فيها, ووضع بعض القواعد الثابتة حتى لا تتكرر مرة أخرى.
منهج جديد
ولأن استنباط الأنموذج الجديد يحتاج إلى ترتيبات قانونية وعدلية كما يشير بعض المراقبين.
أكد كاشا إمكانية صياغة قوانين بمنهج جديد وإشراك المستهدفين من تحقيق العدالة الانتقالية وعدم فرضها ويجب أن تأتي برضا وقناعة أصحاب المصلحة, سواءً أكان إدارة أهلية وطرق صوفية أو كل المجتمع حتى تتم زراعة روح التسامح والتعافي والتصافي بينهم, لأن عدم زراعة تلك الروح سيولِّد الأحقاد, بسبب هنالك من تضرر من النزاعات, لذلك مهم أن نعرف كيف يتم إزالة الغبن والأحقاد وجبر الضرر؟ وكيف نخلق علاقة بين تلك المكوِّنات وإزالة التقاطعات المختلفة بين الرعاة والمزارع.
وأضاف: هنالك أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة، ونوَّه كاشا إلى جانب مهم وهو الجانب السياسي الذي يلعب دوراً كبيراً جداً في شحن الناس, وفي كراهيتهم بسبب خطاب الكراهية, ولذلك لابد من مصالحة وطنية دون إقصاء لأحد. باعتبار أن السودان لا يمكن أن تحكمه قبيلة أو حزب أو إثنية أو ثقافة أو لغة. لذلك لابد أن يدخل كل السودان في برنامج للمصالحة الوطنية وفي انتخابات حرة ونظام ديموقراطي جديد.
ورأى بأن الذي يجري الآن سيتضرر منه السودان.وقال: ليس هنالك مشكلة أن يتم تطبيق العدالة الانتقالية والانتقال معاً. وأضاف بالقول: (الاثنان يمكن أن يمشيا مع بعض) فقط علينا أن ننتج ما هو سوداني في تطبيق العدالة. غير أنه رأى أن نبدأ بالمصالحة الوطنية, لأنها واحدة من أجندة المصالحة تحقيق العدالة الانتقالية .
تطلعات الثورة
ويقول المحلِّل السياسي والقانوني إبراهيم آدم إسماعيل: إن الثورة التي اندلعت في السودان هدفت إلى تحقيق مبدأ العدالة الانتقالية, وكانت إحدى تطلعات الشباب في الشارع.
وقال: لكن ليس من وجهة النظر الغربية أو التي يطالب البعض تطبيقها في السودان, ورأى أن الموروثات السودانية بها نماذج حية لتطبيق العدالة دون أن يكون هنالك أي قانون أو رقيب عليها. بالتالي من الضروري استنتاج أنموذج يمكن أن يطبَّق في البلاد و مُلهِم لتطلعات الثوار في تحقيق شعارات الحرية والسلام والعدالة،وقال لـ(الصيحة): يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقّدة والمتعدّدة التي يتّصف به الظلم المُرتكب في البلاد خلال الحقب التاريخية الماضية. وأضاف لا يمكن أن ننظر إلى تطبيق العدالة دون الرجوع إلى الإرث الذي خلَّف تلك المآسي مع الحرص على عدم الإفلات من المساءلة القانونية والقضائية حال ثبت ذلك, سوى كان على الأفراد أو الجماعات أو الحركات .
مبيِّناً أن حالة النزاع كانت حول الأرض أو الحواكير أو غيرها والتي تحل في السابق بواسطة العمد والنظار أو الإدارات الأهلية, بالتالي لابد من تكييّف تلك القضايا مع حاجات المجتمع واستجابات الحكومة والتعاطي معها، مع السماح في الوقت نفسه للشعب أن يخطو خطوات واثقة نحو مستقبل أكثر عدالة وسلاماً. وهو يتطلع إلى عدالة حقيقية نابعة من مكوناته وموروثاته الاجتماعية. وأمَّن على أهمية البحث عن ميزان للعدالة الانتقالية من صميم المجتمع السوداني . الذي تعارف عليه منذ القدم. وقال هذا ليس بالأمر الصعب على الدولة أن تقوم بذلك في نفس الوقت الذي يطالب فيه الشارع بتحقيق ذلك المبدأ.