حواجز قاتلة في طريق الانتقالية!!
لا شك أن الاتفاق النهائي حول الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير تعتبر بارقة أمل وواحدة من أهم المسارات البديلة للتحرك السياسي الوطني الداخلي لتحقيق الاستقرار ووقف الاضطراب المستمر منذ الاستقلال والذي أساسه عدم الاتفاق على نموذج حكم مُرضٍ وضابط للعلاقة بين المركز والأقاليم وما الحروب التي انطلقت بُعيد الاستقلال إلا واحدة من شواهده والأزمة الدولية والإقليمية والحصار الاقتصادي تحت ملفات الانتهاكات وغيرها إلا جزء من شواهد التمردات التي شملت بعد الجنوب الغرب والشرق والوسط السوداني، وباتت هي التي ترسم لنا خرائط سير مراحل الحكم الوطني، ولذلك أي تسوية سودانية تغفل ملف الحرب وتحقيق السلام في البلاد فهي مهددة بتحديات جسام، ومن هنا لابد لقوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري إذا أرادا خيراً أن يأخذا تهديدات الجبهة الثورية عشية إعلان الاتفاق حديثاً جدياً أنهم بأمكانهم إشعال البلاد، ولابد من استيعاب ورقة السلام. إن شكل الاحتفالات التي دعا لها إعلان الحرية والتغيير بعد التوقيع وصدور الإعلان أمر جيد ومفرح، لكن كان الأوفق ولمصلحة تقوية الشراكة وبناء الثقة أن تصمم شعارات فرح جديدة تختلف عن شعارات الثورة والمظاهرات التي كانت تقال أيام الحراك، وأن السماح لهذه الشعارات حتى بعد التوقبع النهائي يوضح أن قوى الحرية والتغيير تريد أن تحتفظ بالثوار كورقة ضغط عند الحاجة. وللأسف على الرغم من توقيع الاتفاق النهائي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، إلا أننا نجد أن قوى الحرية والتغيير لا زالت تحتفظ بالشارع والثوار كورقة ضغط لتمرير أجندتها الخاصة دون مراعاة للاتفاق مما خلق حالة خلط وإرباك فجاء الاحتفال وكأنه إلحاق بجزء من اللحظات الثورية، وقد لاحظت هذا الشيء أمس الأول عقب التوقيع على الاتفاق، حيث خرجت جموع الثوار من كل أحياء الخرطوم وبعض مدن السودان الأخرى وقد قاموا بترديد الهتافات القديمة (الدم قصاد الدم) و(الإساءة للجيش والشرطة والدعم السريع وجهاز الأمن) و(والإساءة لقائد المجلس)، وحتى الرسوم الجدارية التي تمت كانت فيها إساءات للقوات المسلحة، وهو الشيء الذي لا يتوافق مع روح هذه المرحلة وما تضمنته من ترتيبات وتعافٍ، إلا أن الاتفاق نفسه ترتيب متعجل اهتز سياقه الزمني ففقدت الوثيقة نزاهتها كإعلان دستوري حاكم للسودان للفترة الانتقالية عبر شريكين (المجلس العسكري وقوى التغيير)، وإن الذي يراقب يتأكد أن المجلس العسكري يتعامل مع ما يحدث بكل رحابة صدر وحسن نية تعكس مدى جديته في التوصل الى اتفاق واحترام كلمته وشراكته مع قوى الحرية والتغيير، لكن كثير من مكونات الحرية والتغيير تتعامل بنفس روح وأداء اللحاق بالعربة الأخيرة وتمارس ضغوطاً واضحة ومعلنة متناسية أنها جلست على مقود القيادة وأن مصير كل الركاب والعفش داخل العربة صار بيدها إذا جاز التعبير.
إذا استمرت قوى الحرية والتغيير بهذا الشكل من التعامل مع المجلس بوجهين وبحذر وتشكيك ولم تراع غضب الطرف الآخر وتعمل على استفزازه أخشى أن يختبر المجلس العسكري قدرته وجاهزيته لمواجهة اضطراب قوى الحرية والتغيير وعدم تقديرهم للشراكة وانشغالهم بتلهفهم إلى الوصول إلى السلطة بأي وسيلة، لحظتها سيتحمل المجلس مسئولياته التاريخية تجاه قضايا الوطن والمواطن ومعاشه.
يلزم قوى الحرية والتغيير النظر إلى دلالات خطابهم السياسي والإعلامي ومعانيه المستفزة للطرف الآخر والمتجاوزة بكل المقاييس والتي تشي وتكشف مساحة الرغبة عندهم لإنجاز الخطة كاملة قبل انتهاء الفترة الانتقالية والترتيب للانتخابات، وهناك التحدي الأكبر الذي يجعل الفترة الانتقالية مرحلة ثقيلة وبطيئة على الطرفين وعلى الشعب السوداني الذي رفع سقف طموحاته، وهو الذي يقف في الطرف الآخر من الذين ضاعت مصالحهم ولم تضمن في هذا الاتفاق سيضعون من الجهد والتخطيط والمال والعلاقات الاقليمية والعالمية ما لا يمكن بأية حال استيعابه من قوى الحرية والتغيير من أجل ألا يصل قطار الشراكة والمرحلة الانتقالية إلى محطته الأخيرة بسلام، ويكتشف الحرية والتغيير أنهم مارسوا على مدار الرحلة منهجاً وأسلوباً خاطئاً، وكانت كل تخطيطاتهم عبارة عن ألعاب بهلوانية وخطرة عليهم قبل الآخرين، سيكتشف قادة الحرية والتغيير أنهم كانوا يمارسون فعلاً وبمسوغات غير مقبولة ضيعت عليهم المرحلة ولم يتموا تحالفاتهم لا مع المجلس العسكري ولا مع غيره وتجاوزوا المعقول والمقبول وأغفلوا من حيث يدرون أو لا يدرون الثوابت الوطنية التي ينبغي أن يعملوا وفقها حتى صارت فترة الثلاث سنوات الانتقالية مهدداً لسلامة الوطن بأكمله بوقائع كثيرة ارتكبوها مسجلة ومعلومة ويكونون قد وضعوا شريكهم المجلس العسكري على المحك وهو بالطبع لن يسمح لأي مهدد لأمن الوطن أن يمر ولن يقف مكتوف الأيدي وهو يرى البلاد على بعد خطوات من التجربة الليبية.
وهناك في زاوية أخرى للمشهد تدور المسرحية السورية الدامية بمشاهدها اليومية وهي مشاهد بعثت برسالة واحدة أن قطار الثورة السلمي سينتج الدم والعنف ولا محطة أخيرة له سوى ضريبة الخلط المؤلم ما بين التشرذم والصراع المؤجل ما بين المركز والهامش والكل ينكفئ على ذاته وتُعاد صورة شبحية جديدة لتجربة انفصال الجنوب وواقع العراق الطائفي واللبناني المذهبي، وربما الصورة الأكثر قتامة الصومال المتحلل وهي صور بالطبع ستتراقص حينها كالأشباح المخيفة أمام المجلس العسكري المثقل بالفعل من ميراث العصر السابق، هذا الأخير الذي ذهب ولم ينتج أي أبواب لخروج سياسي آمن أو نقلة متزنة لثورة بدأت واعدة ومحملة بإشراقات عديدة قبل أن تبدأ فصول المخاطر عليها والتهديد الذي إذا لم يستدرك سيصيبها في مقتل.