تقرير: عبد الله عبد الرحيم
رغم أن الأجواء السياسية في الأيام الماضية كانت تنبئ بأن القادم سيكون أفضل، وأن التشكيل الحكومي وتسمية الوزراء سيتم البت فيها بأسرع وقت ممكن، إلا أن أكثر المتشائمين لم يتوقع أن تشهد ساحة الحرية والتغيير ما يؤدي إلى تأجيل هذا التحول المنتظر. ويبدو أن شيطان التفاصيل الذي لازم الكثير من الاتفاقيات السودانية المختصة بالسلام وإحراز نقلة نوعية في الحياة السياسية والاقتصادية بدأ يمارس لعبته المفضلة في تعطيل التحول وإنفاذ ما اتفق بشأنه في الاتفاقيات المختلفة، وها هي أولى خطوات التأجيل تبدأ بتأجيل حل المجلس العسكري الذي اتفق بحله بشكل عاجل عقب الاحتفال بالتوقيع النهائي وتسمية كل جسم لمن يمثلهم في السيادي. ومن السوء لمن يشايعون تحالف الحرية والتغيير أن التأجيل تم بناء على طلب تقدمت به الحرية والتغيير. فقد أعلن المجلس العسكري الانتقالي عن تأجيل إصدار المرسوم الدستوري الخاص بحل المجلس العسكري وتشكيل مجلس السيادة لمدة (٤٨) ساعة، بناء على طلب من قوى الحرية والتغيير لتتمكن من التوافق بين مكوناتها على قائمة مرشحيها الخمسة للمجلس.
وأكد رئيس اللجنة السياسية بالمجلس الفريق الركن شمس الدين الكباشي الناطق الرسمي، حرص المجلس التام على تطبيق المصفوفة المرفقة مع الإعلان الدستوري والخاصة بتحديد توقيتات تشكيل هياكل السلطة الانتقالية. وقال كباشي أمس الإثنين، إن المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير عقدا الأحد بالقصر الجمهوري اجتماعاً مطولاً اتسم بروح المسؤولية والشراكة، بحثا خلاله إجراءات تشكيل مجلس السيادة. وأوضح أن الجانبين أكدا التزامهما بتوقيتات تشكيل هياكل السلطة الانتقالية المعلنة حسب ما ورد في المصفوفة المرفقة مع الوثيقة الدستورية. وكان من المقرر الإعلان عن حل المجلس العسكري وتشكيل مجلس السيادة الأحد على أن تؤدي عضويته من المدنيين والعسكريين اليمين الدستورية الإثنين. وأضاف كباشي أن كل طرف سلّم أسماء مرشحيه الخمسة لمجلس السيادة، وتم التوافق على الشخصية رقم (١١) لعضوية المجلس. وأشار كباشي إلى أن قوى الحرية والتغيير تراجعت عن ترشيح بعض الأسماء التي كانت قد قدمتها لعضوية مجلس السيادة وطلبت منحها مهلة (٤٨) ساعة لتسليم قائمة مرشحيها النهائية لعضوية مجلس السيادة.
خلافات جوهرية
ووفقاً لما ذكره المجلس العسكري هنا يطرح السؤال نفسه ما الذي يجري في باحة الحرية والتغيير؟ هل ثمة خلافات جوهرية تعترض سبيل الاختيار النهائي للشخصيات الممثلة للتحالف الذي يتكون من خمس كتل متحالفة لكنها غير متجانسة بحسب ما بدأ يظهر مؤخراً؟ أم إن ثمة خلافات جوهرية تتعلق بقضية أو شبهة فساد سياسي بدأ يرسم ملامحه بوضوح ليضع الساحة بناء على ذلك أمام متغيرات الحرية والتغيير غير المنظورة؟؟ وما مدى إمكانية تجاوز كتلة التغيير مجتمعة دون أن تمسها لعنة التجزئة والتشرذم التي ضربت معظم نسيج الوسط السياسي السوداني في مؤسساته، خلال الثلاثين سنة الماضية، وهل سيجد الكشف النهائي للتغيير الرضاء التام من مكونات الحرية والتغيير أم إن بوادر الانشقاقات ستوالي تناسلها لتدخل الساحة السياسية مبكراً في ديمقراطية مشوهة جينياً بمرض التآمر الجيوبولتيكي والفساد المفضي للانهزامية والتقزمية السياسية؟؟
سرطان الانشطار
ويقول د. أبوبكر آدم المحلل السياسي والأكاديمي لـ(الصيحة)، إن الطبيعة السياسية لقوى الحرية والتغيير لا يمكن إغفالها فهي تعتبر من الأجسام الكبيرة وبناء على هذه التركيبة فإن طبيعة وتكنيكات الاختيار لمن يمثلونها يتوقع أن تحدث خلالها بعض الهنات والتوقف لوجود التجاذبات السياسية الكبيرة داخل هذا المكون الذي ولد في ظروف سياسية قاهرة.
وقال: يجب ألا يغفل أيضاً أن الأجسام التي كونت هذا التحالف هي أيضاً مولودة من كيانات موبوءة بسرطان الانشطار السياسي، إذ أن معظمها قادم من رحم أحزاب مهترئة جراء العمليات الجراحية الكبيرة التي أجراها حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية السودانية في الأحزاب التقليدية والأخرى القديمة في الساحة السياسية السودانية، لذلك فإن تحالف الحرية والتغيير لم يكن حلفاً سرمدياً مقدساً، وإنما حلف نبت كغيره من القوى السياسية التي تعرضت لهزات عميقة أدت للكثير من التشققات في جدارياته الحديثة.
وأكد آدم أن من يتوقع عدم حدوث تباعد واختلاف في التكوينات القادمة والتي طرفها الحرية والتغيير فهو لم ينظر للواقع بتجرد مؤكداً أن عدم التجاذبات السياسية هو الأمر المستبعد.
تركيبة غريبة
وقال أبوبكر: بناء على ما كان يتوقعه المراقبون، فإن ما حدث يعتبر جواز مرور وبنجاح لهذه القوى غير المتجانسة، لأن الأمر يتفق وطبيعة تكوين التحالف الذي يمثل مناطق السودان الجغرافية ذات الاتجاهات السياسية المخلتفة والمتعددة. وهذا الأمر بناء على أبوبكر يفرض أن يكون هناك تمثيلاً لكل هذه الاتجاهات وأن التحالف كان يجب أن يعمل لهذا قبل الوصول لهذه اللحظات تحديداً حتى لا يعوق أمر الانتقال السلمي للسلطة في زمانها ومكانها المحدد. مشيراً إلى أن التراجع عن اختيار محمد حسن التعايشي عضو تجمع المهنيين في القائمة السيادية للتحالف كان صفعة كبيرة لمحبي التحالف ومؤيديه، لكنه رجع وقال إنه وبناء على التركيبة الغريبة للتحالف فإن هذه الاختلافات والتراجعات في الاختيارات التي تطرح داخل الحرية والتغيير كان أمراً متوقعاً وبدلاً عن التوقف لبرهة ووقوف التحالف مكتوف الأيدي كان عليه أن يعمل بجد لتجاوز عقبات الفترة الانتقالية والتي قد بدأت فعلياً بعد التوقيع المشهود عالمياً وإقليمياً. ونادى بضرورة اغتنام ميزة الاختلاف الجهوي داخل التحالف وتحويله لمنفعة ومصلحة التغيير ليكون لها مصدر قوة وليس مصدر لاستيطان عدم الثقة بين مكوناتها المختلفة لمجابهة المستقبل الذي فرضه الواقع السوداني عليهم ليمثلوا خلاله الشعب السوداني، طالما أن المستقبل السياسي للبلاد، منوط به جسم يتكون من قوى سياسية وهيئات ونقابات متعددة.
وتوقع أبوبكر أن تستمر مثل هذه المواقف الخلافية كثيراً داخل الحرية والتغيير خاصة وأن الفترة الانتقالية تمتد لقرابة الثلاثة أعوام وهي بعمر الواقع فترة طويلة تأمل كل القوى السياسية خلالها أن تبني نفسها وتستفيد من العطاء والتمدد الموجود الآن.
خلافات الهوية
لم يكن هذا الواقع يختلف كثيراً عن ما مضى، حينما أعلنت الجبهة الثورية مقاطعتها للحفل النهائي لتوقيع السلام والبدء في الانتقال للحكومة الانتقالية، إذ أن ذلك الموقف لم يأت من قوى مختلفة عن الحرية والتغيير، وإنما تعد الجبهة الثورية أحد مكوناتها الكبيرة لتنفجر بذلك أولى الخلافات الدائرة في الجبهة الثورية نتاج تباينات التشكيل والتكوين غير المتجانس.
ويقول بروفيسور صلاح الدومة الأكاديمي والمحلل السياسي إن الخلافات موجودة حتى داخل صفوف الجبهة الثورية نفسها قبل أن تنضم لتحالف الحرية والتغيير مدللاً بذلك إلى إنها داخلياً ليست على وئام. وهذا بدوره يشير لطبيعة الحال داخل التحالف الكبير الذي يتكون من خمس كتل سياسية كبيرة. وفي وقت قال فيه الدومة بعدم المبادئية وسط هذه القوى المكونة لهذا الجسم الكبير يشير إلى المواقف المتأرجحة للثورية بين التظاهر بالمبادئ وبين الجري خلف المصالح، بيد أنه قال إنهم باعوا القضية. ويرى أن المطالبة بإرجاء إعلان الحكومة لحين إكمال الاتفاق معهم لا يخلو من الذاتية، وقال إن أمر المحاصصة مبدأ فاسد لا ينبغي أن تتبعه الحرية والتغيير التي تسعى لتشكيل الموقف السياسي بتشكيل جديد فيه المجال لممارسة الحرية بكل سلاسة. وطالب الدومة بنشر المسكوت عنه في المفاوضات بين تحالف الحرية والتغيير والجبهة الثورية في اجتماعات أديس أبابا حينما طالبت بإرجاء المفاوضات لأكثر من مرة. مشيراً إلى أن تلك القوى رغم ثوريتها إلا أنها لا تمثل كل الشعب السوداني. مؤكداً أن الأوضاع الآن تغيرت كثيراً وصار هناك مجال ومتسع لكل الأفكار التي يجب أن يكون لها متسع، ولذلك فهو يرى بأن مقاطعة الجبهة الثورية فيه الخطل السياسي الكبير وما يذهب ببريق هذه القوى التي تتباعد الخطوات بينهم رغم ائتلافهم كجسد واتفاقهم في الهدف السياسي مسبقاً.
وقال إن قيادات الحرية والتغيير مضطرون للالتزام بالدبلوماسية وعدم نقل ما يدور في الغرف المغلقة للإعلام رغم أنه أكد أن ذلك سوف يظهر عبر التحليل السياسي الذي يوضح ويكشف الوضع الزائف لهذه القوى السياسية ونسبة الفساد السياسي الذي يكتنف مواقف الثورية وقواتها الممتدة، وهي جزء أصيل من مكونات الحرية والتغيير الذي يختلف في تسمية ممثليه في المجلس السيادي.