عندما يرفع حمدوك الغطاء ..!!
من الصعب التكهّن بمستقبل حكومة السيد د. عبد الله حمدوك المقبلة، فالرجل سبقته حملة دعائية معه وضده، ولم تشفع لمن هم ضده سيرته ومسيرته العلمية والعملية الناصعة، ولم يقدم له الراضون عنه إلا النصائح العامة والتمنّيات الطيبة التي لا تُصلِح اقتصاداً ولا توفّر خبزاً ولا وقوداً ولا أملاً باذخاً تُشرق به شمس النهضة والتعافي الكامل لوطن غائر الجراح لم يزل واهن العظم من الرزايا التي مرّت به منذ استقلاله.
غير أن السيد حمدوك وهو يتلمّس طريقه تحاصره مسألتان حسّاستان، أولاهما أن قوى إعلان الحرية والتغيير التي أعلنت اسمه بطريقة فجّة لا تليق به، ستفرِض عليه وصاية لزجة باعتبارها هي التي أتت به، ولن تتركه يُدير شؤون حكومته كما يرى ويضع البلسم لكل داء يراه كما يعرف، وثاني هاتين المسألتين أنه سيُواجه حقائق موضوعية لا فكاك منها، هي طبيعة المشكلات والتعقيدات السياسية والمُعضلات الاقتصادية وحالة التنافُر الاجتماعي الحادة ومستوى أداء الخدمة المدنية ونقص الموارد المخيف وضمور العقل الاقتصادي وعجزه عن توليد حلول واقعية لما نُعاني منه ونعيشه، وفي هذا الجانب سيقف السيد حمدوك طويلاً وهو غائب عن المشهد العام لسنوات طويلة يعرف توصيف الحال، لكنه لم يقترِب من نبض ما يجري وما جرى، ولم يلامس الواقع عن كثب .
وعملياً ستُشكّل حكومة للسيد حمدوك دون أن يكون هو صاحب القرار الأول والأخير فيها، فقوى إعلان الحرية هي من يقوم بهذا الجانب عبر اللجان التي تم تكوينها ويغلب عليها رأي حزب واحد يدّعي المعرفة والدّراية ويُمارس العمل السياسي الباطني بكل طقوسه وأسراره، فسيَصطدِم السيد حمدوك بحقيقة بسيطة أن من يتم اختيارهم له أو مشاورته حولهم لا يعرف عنهم الكثير ولا عن خبراتهم و كفاءتهم وقُدرتهم على التجانس وابتكار الحلول والبرامج، وسيُنفِق وقتاً طويلاً هو وحكومته في التعرّف أولاً على العمل في القطاعات والوزارات خاصة أن الوزارات إذا تم تقليصها إلى عشرين وزارة فقط ستكون وزارات ضخمة جداً وذات مهام مُركّبة معقّدة وتحتاج في تعريف وتوصيف تحديد صلاحياتها وسلطاتها إلى اجتهاد كبير سيكون من الصعب عليه كرئيس للوزراء المتابعة والتنسيق المستمر في ظل الأزمات الماثلة وكيف يتم تجاوزها .
فمن واقع اختيارات قوى إعلان الحرية والتغيير لمرشحيها في المجلس السيادي وما يتناقله الرواة عن أسماء المرشحين للوزارات أو مؤسسات أخرى، فهناك معايير غائبة، توجد مؤهلات علمية نعم، لكن الخبرة ومدى الكفاءة والإدارة والإدراك والنجاعة السياسية هي المحك الرئيس، فالملاحظ أن نهج المحاصَصات والتوازُنات الجهوية والمناطقية وربما القبلية هو السائد الآن ولا فكاك منه، وهذا النهج كما كان في النظام السابق سيدفع بتقديم شخوص بلا خبرة كافية وتعوزهم التجربة الوافية، ولذا سيكون على الدكتور حمدوك كقائد للفريق التنفيذي أن يختبر قدرات من هم معه ويديرهم إدارة صارمة وواعية في ذات الوقت حتى لا يتحمّل الأخطاء والتقصير الناتج من ضآلة الخبرة والتجربة .
وغير بعيدٍ عن ذلك .. أن أهم ما يواجهه رئيس الوزراء القادم، أن ما جرى في البلاد وضع القادة السياسيين في الصف الثاني وتولِّي الناشطين بعقليّاتهم الحالِمة صياغة المزاج العام للشارع وخاصة فئة الشباب التي قادت الحراك الذي أدى للتغيير، فأول تحدٍّ يواجه رئيس الوزراء هو كيفية إرضاء هذا المزاج بالسرعة المطلوبة وتوفير ما يُطالب به في أقصر الآجال، ومعالجة الأزمات الجاثمة على الصدور، فمطالب المزاج العام وسقفها العالي الذي صنعه الناشطون ومجلس الوزراء الذي عُهد إليهم بتكوينه لن يكون الطريق إليها مفروشاً بالورود ولا سهل المنال، فضعف الاقتصاد واختلال موازينه وقلة الإنتاج وضمور الحوافز والمشجّعات على العمل المنتج، وحجم البطالة والتضخم وغياب القدوة الحسنة وفشل الأحزاب والتنظيمات السياسية في تجسيد مثالات واقعية تعبّئ الطاقات نحو التنمية والبناء والنهضة ، فضلاً عن واقع مُزرٍ في مجال الخدمات وقِلّة العون الخارجي وتقتير الأشقاء والأصدقاء في مساعداتهم وبعضها مشروط ، كلها عوامل يصعب للمزاج العام للشارع استيعابها دون أن يُخاطب بصراحة ووضوح وشجاعة، ولا نعتقد أن الشجاعة الآن موجودة ولا الوضوح هناك من يجرؤ على الارتكاز عليه … بين يدي الثوار ثورة بلغت صيحاتها عنان السماء .. لكن تحوّلت بين أيديهم إلى إدارة حكومة ودولة لا تنفع معها الهتافيات ولا الشعارات الرنانة .. فما الذي سيفعله السيد حمدوك وهو يجلس على مقعد من سبقوه…؟