منى أبو زيد تكتب: كان يا ما كان..!
هناك فرق
منى أبو زيد
كان يا ما كان..!
“آثار الذكاء تعيش أكثر من آثار القوة”.. فرانسيس بيكون..!
سِيَر الحضارات والممالك مثل سِيَر الأشخاص تماماً، بعضها يحييه الاحتفاء ويخلده الذكر، وبعضها يطمسه الإهمال والتجاهل في ظل غياب “الوجيع” الذي يُهيئ لها الأسباب لكي تكتب في أضابير التاريخ. في كتاب رحلة ابن بطوطة يذكر الرجل مدينة “عيذاب” في شرق السودان وشهوده الهزيمة التي ألحقها ملك البجا “الحدربي” بالأتراك وفرارهم أمامه، أما اليوم فكلمة “بجا” لا تذكر – في السودان – إلا ضمن دعوات المنادين بوجوب انتهاء تهميش منطقة أحفاد الحدربي..!
ليس الأشخاص وحدهم، بل حتى الحضارات تحتاج من يحرس سيرتها، وليس مُدهشاً أن يكون مقابل الحراسة عائداً اقتصادياً كحراسة جيراننا المصريين لسيرة الفراعنة وآثارهم وتكسبهم التاريخي من تلك الحراسة. فهم بوصايتهم وبقائهم “عَشَرة” على تلك الآثار لم يكسبوا احترام العالم فقط، بل اعتمدوا في معظم عائداتهم الاقتصادية من السياحة على آثار الفراعنة..!
وكنت قد استشعرت سذاجة أو طيبة البعض الذين قرأت عن مطالبتهم عالم الآثار الدكتور “زاهي حواس” بالإخلاص في تفنيد مزاعم الشيخ السنغالي “أنتا ديوب” عن أفريقية الفراعنة. أوليس طيباً و”على نيّاته” من يطالب الرجل – باسم النزاهة العلمية – أن يساهم في زعزعة إيمان العالم بحقائق تاريخية ظلت مصر تتكسّب وتعتاش عليها قروناً طويلة..!
أما عن حديث الشيخ السنغالي “أنتا ديوب”، فقد كان هو أول من كتب عن أصل الفراعنة واستشهد ببعض التماثيل الفرعونية المنحوتة من أحجار البازلت الأسود والجرانيت الأسود كتمثال الملك توت عنخ آمون وتمثال الملك رمسيس الثاني – استشهد بها – في معرض تدليله على أن الفراعنة كانوا زنوجاً وأن الحضارة الفرعونية هي حضارة أفريقية الأصل. وهو أول من قال بأن اللغة المصرية القديمة تعود أصولها إلى اللغات الأفريقية القديمة. ليس ذلك فقط، بل طالب بتحليل صبغة الميلانين بعد أخذ عينات من جلد تلك المومياءات لإثبات نسبها الأفريقي..!
فمن الذي يجرؤ يوماً على أن يقول “بغم” في هذا الشأن ويدخلنا مأجوراً في زمرة أحفاد الفراعنة المتكسبين من “القشرة” بأجدادهم – مالاً أحمر – يا ترى؟. قرأت يوماً أن السيدة “زينب البدوي” المذيعة الشهيرة بقناة “بي. بي. سي” البريطانية قد أعلنت ذات سانحة عن عزمها على إعداد كتاب عن “حضارة نبتة” بعنوان الفراعنة السود..!
فالناس في أوروبا وأمريكا – كما تقول زينب – مهتمون بهذه الآثار ربما أكثر من السودانيين أنفسهم. ولست أدري ماذا فعل الله بكتابها الذي لا شك أن صدوره باللغة الإنجليزية وانتشاره على نحو جاذب سيعين الجهود القليلة والمتقطعة التي يبذلها السودانيون للتعريف بحضارتهم..!
من مكاسب الثورة السياسية في السودان أن ثورة وعي موازية قد اندلعت في أعقابها فظهرت بعض المواقف الداعية إلى تعريف العالم بحضارتنا الفرعونية التي سادت ثم بادت وبقيت آثارها باقية دون أن يلتفت إلى ذلك أحدٌ ودون أن نحاول نحن أن نلفت إلى ذلك أحدا. وهذا جيد وجميل ومبشر لأنه تفعيل طال انتظاره لدور “الوجيع” – ابن البلد وسليل الحضارة – في إعادة صياغة تاريخه المكتوب على نحو فيه “إنَّ”..!