مدن منسية.. الخوي (عاتي) نموذجاً
الخوي: عباس عزت
توقف البص السياحي بعد مسيرة 12 ساعة، قطعها من السوق الشعبي –أم درمان وحتى مدينة الخوي.. كانت الساعة تشير إلى السادسة مساءً واليوم اثنين، وغداً الثلاثاء، يوم السوق الأسبوعي – في هذه المدينة الريفية – والذي يشهد حركة تجارية نشطة في تجارة المواشي، ويعد من أكبر الأسواق على مستوى السودان، لصادر الإبل والضان الحمري،كما علمت من الأستاذ حسن شطة، الذي قام بتنسيق هذه الرحلة، وأخبرني بأن هناك من ينتظرني على محطة البص ليقوم بتأمين السكن في تلك المدينة الريفية التي تفتقر للفنادق والنُزل، نزلت من البص وتلفت حولي،نفحتني نسمة لطيفة،وشاهدت أشجاراً خضراء تتراص في الأفق، وشاحنات عملاقة مخصصة لنقل الضان الحمري متناثرة تشق الهدوء.. يا خوي أنا قادم، فافتحي لي ذراعيك.. وقفت على الجانب الآخرمن الطريق، انظر يمينة ويسرة عدة مرات، ثم أعبر إلى الجانب الآخر، لعل وعسى أن يلفت شكلي الغريب انتباه من أوكلت إليه مهمة استقبالي، توجهت إلى المقهى الذي يطلقون عليه اسم (الاستراحة)،وجدت عدداً قليلاً من سائقي الشاحنات العابرة، يتناولون الطعام،تفحصت الوجوه.. لم أجد أحداً في استقبالي.. اتصلت بالأستاذ(خيار)الذي أوكلت إليه مهمة مرافقتيولم أجد رداً فقد كان هاتفه مغلقاً.
ثم الانتظار ساعة..!
انتظرت في المحطة لمدة ساعة من الزمن بدت لي دهراً، وهاتف حسن شطة -أيضاً- لا يستجيب.. وبدأت أفكر في مواصلة رحلتي إلى مدينة النهود، وبعد عدة محاولات استجاب هاتف حسن شطة الذي أوضح لي بأن الأستاذ(خيار) في مهمة خارج المدينة وقد لايعود قبل يومين، وطلب مني الانتظار بالمحطة التي تبعد عن المدينة مسافة 4 كيلومترات تقريباً، أصابني الإحباط وشعرت بالقلق والخوف،أين أقضي ليلتي؟.
فرجت وحكاية محزنة من مستشفى الخوي..!
وبعد ربع ساعة تقريباً عاودت الاتصال بالأستاذ شطة الذي طلب مني أن استقل عربة أجرة واتجه إلى المدينة، والسؤال عن منزل الأستاذ عيسى عوض الذي سوف يقوم باستضافتي،فما كان من صاحب المقهى الذي كان يسترق السمع إلا وأن أشار إلى أحد سائقي عربات الأجرة قائلاً له:(وصِّل الصحفي دا لبيت الأستاذ عيسى عوض).
تهللت أسارير سائق عربة الأجرة الذي كان بانتظار من يكمل عدد ركاب عربته (الاتوس) حمولة أربع ركاب، وكان في جوفها رجلان وامرأة، أخذت مكاني داخل (الاتوس) وجلست جوار المرأة التي كانت تحمل طفلة هزيلة أضناها المرض، علمت فيما بعد بأنها قادمة من مدينة الأبيض التي ذهبت إليها صباحاً طلباً للعلاج، بعد أن تعذَّر علاجها بمستشفى الخوي الريفي،وأخبرني زوجها الذي كان يجلس على المقعد الأمامي بأنه أخذ طفلته التي تعاني من سوء التغذية إلى مستشفى الخوي، وبعد الكشف طلب مني الطبيب نقلها إلى مستشفى الأبيض، حيث يتعذَّر علاجها هنا، فالطفلة تحتاج إلى محاليل لاتتوفر بالخوي، والتأخر في ذلك يؤدي إلى وفاة الطفلة، وهاهم الآن عائدين إلى ديارهم بعد إجراء اللازم بمستشفى الأبيض .. وضعت مستشفى الخوي الريفي ضمن أجندتي على أن أزورها لاحقاً لأقف على حالها، ثم سألت سائق عربة الأجرة المثقف، عن مدينة الخوي، رمقني بنظرة خاطفة عبر المرآة، ثم قال وهو يحدق بنظره في الطريق الترابي الوعر: (الخوي في الليل غير الخوي في النهار، إنها مدينة تبدل سكانها، في النهار هي مدينة المال والأعمال والتجارة والبيع والشراء والزحام والضجيج، أما في الليل فهي مدينة الظلام والبعوض).. ثم استرسل قائلاً: على مدى سنوات طويلة، الخوي وقراها تصرخ وتنادي بالصوت العالي، لقد عانت قرانا وافتقدت الكثير والكثير من خدمات المحلية لها، أين ذهبت أصواتنا حينما دعمنا أعضاء المجلس الوطني في الترشح للمجلس؟ وأين الوعود الصادقة النبيلة ؟..وماذا قدموا من مشاريع مستقبلية لمدينتنا؟.. أحلامنا ذبلت وآمالنا ذهبت، وصبرنا نفذ، وقوانا خارت وشبابنا هجروا الديار، بصراحة الخوي من المفروض أن تقوم بها خدمات شاملة لأنها تضم أكبر مركز لصادر الماشية على مستوى السودان،ولو أن المنطقة تتبع لولاية شمال كردفان لتغيَّر الحال وصارت المدينة من أجمل المدن لما تجنيه المحلية من إيرادات عالية تصل إلى مليارات الجنيهات شهرياً من رسوم سوق المواشي والصادر، دون أي خدمات تعود إلى المنطقة، ثم ختم قائلاً: أتمنى من حكومة ولاية غرب كردفان، أن تلتفت لمدينة الخوي وتكمل طريق الأسفلت الذي يربط المدينة بطريق الإنقاذ الغربي والذي لا يتعدى الأربع كيلومترات.
توجيهات رئاسية..!
وتساءل الراكب الآخر عن تماطل مسؤولي حكومة الولاية عن عدم تعجيلهم بسفلتة الطريق الذي يربط المدينة بطريق الإنقاذ الغربي مع أن توجيهات قديمة من رئاسة الجمهورية، كانت واضحة لجهات الاختصاص بالانتهاء من هذا العمل في فترة وجيزة، مستغرباً أمر تجاهل جهات الاختصاص فيما يعانيه سكان المدينة لا سيما في فصل الخريف عندما تهطل الأمطار لتتحول المدينة إلى وحل حقيقي يصعب السير فيه مشياً أو راكباً في السيارة، ويضيف قائلاً: نحن نعيش معضلة حقيقية بسبب الطرق الداخلية الرملية، وترتفع درجة معاناتنا خلال فصل الخريف عندما تتحول المدينة إلى شبه وادي يصعب تجاوزه، ثم ختم قائلاً قبل أن يترجل من العربة: تبيَّن مع مرور الأيام أن تلك الوعود كانت مجرد ورقة إنتخابية ليس إلا..
وبعد أن نزل جميع الركاب أخذني سائق العربة إلى منزل الأستاذ موسى عوض الذي كان في طريقه إلى أداء واجب العزاء في أحد موتى المدينة، ولكنه بعد أن علم أنني سوف أحل ضيفاً عليه، وبعد أن شرحت له موقفي والمهمة التي أتيت من أجلها، وغياب الأستاذ (خيار) المفاجئ، طلب مني والبشاشة تبدو على وجهه، أن أدخل إلى المنزل لأخذ قسطاً من الراحة ثم التوجه إلى شيخ المدينة الذى يتوجب علَيْ أن التقي به أولاً بخصوص تاريخ الخوي.
سحر طبيعة الخوي كعروس في ثوب زفافها..!
شكرته على حسن الاستقبال وبعد أن قام بواجب الضيافة، أخذني بواسطة عربة أجرة إلى حي الربع الثالث حيث يوجد شيخ المدينة بمجمع خلاويه لتدريس علوم القرءان .. مجمع الخلاوي لا يبعد كثيراً، ولكن وعورة الطرق داخل المدينة جعلته يبدو بعيداً جداً، فقد أضافت حبات الرمال الصفراء على شوارع الخوي صورة من سحر الطبيعة، أشبه ما تكون بعروس ارتدت فستان زفافها، ولكنها تسببت في تحويل الطرق الداخلية إلى أودية وأنهار من الرمال الموحلة وعزلت الأحياء عن بعضها، واتضح جلياً من خلال هذا المشوار هشاشة مشاريع البنية التحتية لمدينة الخوي، وحاجة المدينة إلى عدد كبير من العبَّارات والكباري والمصدات التي تحوِّل مجاري السيول عن الشوارع العامة والمنازل الآهلة بالسكان.. وبعد معاناة مع الوحل في الرمال واستخدام (الكوريك) الجاروف لتمهيد الطريق لعربة الأجرة، استطعنا أن نصل إلى وجهتنا.. حيث مقر رئاسة مجموعة خلاوي (ليلة القدر) التي أنشأها ويديرها الشيخ محمد أحمد سالم حمد العاتي، شيخ مدينة الخوي الذي رحَّب بنا ترحيباً حاراً وبدت السعادة على وجهه لزيارة الصحيفة لهذه المنطقة المنسية على حد قوله، والتي تحتاج كثيراً تسليط الضوء عليها وذلك لأهميتها الاقتصادية وموقعها الإستراتيجي..