المعارضون الجدد.. التأثير على الاتفاق
(الشيوعي) و(الشعبي) و(الثورية).. اتفاق المواقف واختلاف الأسلحة
قراءة: أحمد طه صديق
(نرفض الاتفاق وسنعارضة سلمياً)، جملة اشتركت فيها تقريباً كل القوى المعارضة للاتفاقات التي أبرمت بين المجلس العسكري والتغيير، بيد أن المراقب لتطورات الأحداث قد يلاحظ أن صوت المعارضين بات خافتاً كما أن حدة العبارات قد انخفضت أيضاً، باعتبار أن الإجماع الشعبي الكبير على الاتفاق لم يجعل مساحة للإفصاح الراديكالي أو فسحة للمزايدة السياسية، حتى الحزب الشيوعي الذي دعا للتصعيد ضد الوثيقة السياسية ثم السياسية مؤخراً، غير لهجته التصعيدية التي راهن عليها في وقت سابق وفق حسابات سياسية اعتبرها كثير من المراقبين بأنها كانت خاطئة.
لكن ما هو تأثير كل القوى السياسية والحركات المسلحة الرافضة للاتفاق ومدى إسقاطات هذا الرفض على مستقبل الحكومة المدنية القادمة؟ هذا ما حاولنا قراءته عبر هذه المساحة.
الشيوعي رفض واستقطاب
حين تم توقيع الوثيقة السياسية، وصف الحزب الشيوعي المسودة بأنها لا تحقق أهداف الثورة والتحول الديمقراطي ووقف حروب البلاد وتحسين الأوضاع المعيشية، وأنها أبقت على القوانين المقيدة للحريات والمؤسسات القمعية وعلى اتفاقيات النظام السابق الدولية والإقليمية.
كما وصف الحزب الاتفاق بأنه منقوص ومَعِيب وأنه يصُب في مجرى الهبوط الناعم الذي يُعيد إنتاج الأزمة بالاستمرار في سياسات النظام السابق القمعية والاقتصادية والتفريط في السيادة الوطنية التي ثار ضدها الشعب السوداني، كما أنه لا يرقى لتضحيات الجماهير ولا المواكب المليونية 30 يونيو و13 يوليو التي أكدت على المدنية الكاملة للحكومة الانتقالية.
كما أشار البيان إلى أن الاتفاق يتعارض مع قرار الاتحاد الأفريقي بتسليم السلطة لحكومة مدنية وانحرف إلى تقاسُم السلطة مع العسكريين، ويتعارض أيضاً مع قرار الاتحاد الأفريقي (854) في حالة عدم تسليم السلطة لحكومة مدنية تفرض عقوبات على البلاد وفردية على المجلس العسكري وعدم الاعتراف به.
وكنا كتبنا في مقال سابق في هذه الصحيفة علقنا فيه على موقف الحزب الشيوعي من الاتفاق وقلنا إنه من الواضح أن بيان الحزب الشيوعي إما أنه لم يستصحب الواقع الظرفي الحالي بكل تضاريسه الوعرة وإسقاطاته المؤثرة على المستقبل السياسي للبلاد، وعلى أشواق حلم تحقيق الدولة المدنية، أو أنه لم يستوعب “ماكنزيم” المفاوضات ومتطلباتها وظلال بنود ما تم التوصل إليه وبلورته على الواقع الفعلي عند التطبيق، كما أهمل قدرة الإرادة الجماهيرية على حراسة ما تم الاتفاق عليه، وعدم إمكانية الردة والعودة الظلامية مجدداً لعهد تم قبره برتل من الشهداء وعرق سال في ميدان النضال السلمي، أو أن الحزب يدرك كل ذلك لكنه توهم الكسب السياسي حين ظن أن صناعة مواقف راديكالية في هذا الواقع الملغوم يمكن أن تحقق له حلم استقطاب الشباب الثائر واصطفافه معه في خندق واحد، وبالتالي يتغول تلقائياً آنذاك على دور قوى الحرية والتغيير في قيادتها الفاعلة لتلك المنظومة المؤثرة، لكن في هذه الحالة يكون الحزب قد أغفل مكونات وماهية منطلقات الشباب التي حركت أشواقهم وماكينات الغضب الثوري المحركة لهم، والتي لا تتكئ على أبعاد إيدلوجية، وبالتالي فإن أي محرك مصبوغ بلون سياسي وفكري محدد لن يجد الاصطفاف معه، سيما في ظل الوعي السياسي، والحس الوطني العالي الذي يشكل شخصية الشباب.
غير أن الحزب الشيوعي بعد الإجماع الكبير على الاتفاق والترحيب الواسع به من معظم قطاعات الشعب السوداني لم يستطع أن يعلن نفض يده من قوى الحرية والتغيير مع إبداء مواقفه الرافضه ولكن بصوت تصالحي.
لكن ما هو تأثير موقف الحزب الشيوعي المعارض على استقرار الدولة المدنية القادمة في حالة ما غيّر تكتيكاته المعارضة إلى أسلوب ناعم يعتمد على الاستقطاب الشبابي وفق آلية برغماتية برع فيها الحزب عبر تاريخه الطويل؟
لعل الإجابة على هذا السؤال ينبغي ألا تنفصل عن التركيبة المفاهيمية لشباب الثورة ونسبة الوعي الكبير الذي انتظم العقل الجمعي لديهم والتي قد تجعل من وسائل الاستقطاب الفكري المتصادم مع أشواق دولتهم السودانية الجديدة التي حلم بها وضحى من أجلها أمر من الصعب تحقيقه فضلاً على عدم إصطفاف معظم الشرائح الشبابية على مفاهيم إيدلوجية سياسية بوعي سياسي وليس كخيار يعبر عن الخواء السياسي .
لعنة المشاركة السابقة
ظلت لعنة المشاركة السياسية في النظام السابق تُطارد عدداً من الأحزاب السياسية على رأسها المؤتمر الشعبي الذي حاول جاهداً أن يلتحق بقطار التغيير في الدولة القادمة، بيد أنه واجه موقفاً صلباً من قبل قوى الحرية والتغيير بكافة مكوناتها باعتبار أن الحزب شارك في النظام البائد حتى رمقه الأخير في السلطة رغم أن بعض قطاعات الشباب داخل الحزب كانت لها مواقف غير مرحبة بتلك المشاركة في الحكم، بيد أن عدم خروجها من الحزب وتكوين تيار معارض جعلها بحكم الواقع جزءاً من الحزب بكل أخطائه السابقة واللاحقة، وبالرغم من أن المؤتر الشعبي يملك العديد من الكوادر السياسية التي تجيد اللعب في السرك السياسي وتملك رصيداً وإرثاً برغماتياً ورثته من زعيمها الراحل الذي يبز جماعته من حيث الفكر السياسي والقدرة على التكييف السياسي والاستقطاب الجاذب الذي كاد أن يحول عدداً من أتباع الحركة الإسلامية قبل المفاصلة إلى حيران يذوبون في الحضرة حتى الغياب .
إلا أن الحزب رغم ذلك ليس من المنتظر أن يسبب أي قلق من معارضته للحكومة القادمة مهما أطلق وابل النقد والسخط، وهي زخات فضلاً عن أنها لن تخدش فهي لن (تدوش) أيضاً، بالنظر لإرثه السياسي ومعطياته السياسية والفكرية الراهنة.
كما أثارت لعنة المشاركة حزب الإصلاح بزعامة الوزير السابق القيادي البارز في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية غازي صلاح الدين، رغم أن كوادره نفضت يدها من المشاركة في السلطة التنفيذية في نظام الإنقاذ منذ العام 2012، وهو أمر جعل بعض المعتدلين يرون أن سد الأبواب مع هذا الحزب غير موفقة، وكان من الممكن أن يلحق بقطار التحالف رغم التباينات السياسية والفكرية مع تيار الحرية والتغيير والإرث السابق الذي كفر عنه قبل سبع سنوات خلت، مع ذلك تبقى معارضته للحكومة الجديدة سطراً لا يضيف حبراً إضافياً في دفتر المعارضة الجديدة .
تيار الشريعة لافتة الدين
في وقت سابق، خرجت جموع من المصلين في إطار ما يُعرف بتيار نصرة الشريعة ودولة القانون، حيث انطلقت من خمسة مواقع من العاصمة مؤكدين على سلمية حراكهم وتأييدهم مكافحة الفساد والقصاص من القتلة بل هتفوا بشعار الثورة حرية، عدالة، سلام، لكنهم أضافوا شعارهم الأساس وهو الشريعة الإسلامية، وقالوا إنهم لن يقبلوا بدكتاتورية جديدة ممثلة في حكومة الحرية والتغيير بعد أن صاموا لمدة ثلاثين عاماً من القهر في ظل النظام السابق، كما هتفوا بعبارة (لن تحكمنا قوى اليسار) في إشارة إلى تجمع قوى الحرية والتغيير.
كما وصف د. عبد الحي الاتفاقية بين المجلس العسكري وقوى التغيير بأنها خائنة وظالمة، كما دعا إلى تسيير مواكب.
وفي أعقاب إعلان التوقيع على الوثيقة الدستورية، دعا الشيخ عبد الحي كافة التيارات الإسلامية بالبلاد إلى اصطفاف لمعارضة الاتفاق، وقال في معرض حديثه بخطبة الجمعة الماضية، إنه يتعين على كل أهل السودان أن يعيدوها ثورة من جديد ضد الوثيقة وضد الأطراف الذين سيوقعونها، ووصف الوثيقة بالمشئومة والجائرة باعتبارها جاءت لتنحية شرع الله .
ودعا إلى تشكيل لجنة من المحامين للطعن في الوثيقة أمام المحكمة الدستورية.
كما انتقد د. محمد عبد الكريم رئيس تيار نصرة الشريعة والقانون الوثيقة الدستورية في ندوة سياسية أقامها التيار الجمعة الماضية ووصفها بعدم الدستورية وأنها تمثل خداعاً للشعب وأنها اجترأت على الدين وعملت على طمس الهوية السودانية بإغفال ذكر الدين الإسلامي، وطالب الأئمة والدعاة بالوقوف أمام ما وصفه بخطر العلمانية.
وبالرغم من أن الخطاب الديني من شأنه أن يؤثرعلى قطاعات مقدرة من الشعب السوداني، بيد أن تجربة النظام السابق بتبنيه في خطابه السياسي الشريعة الإسلامية ودولة الإسلام الشاملة والتي اتسمت بالغوغائية وانتفاء المصداقية وفق حصادها القاتم على صعيد تجربة حكمها الطويل، سيجعل استماعهم للخطاب السياسي الإسلامي مجدداً أمراً صعباً، كما أن الشباب والعديد من أنصار إحداث التحول الجديد للسودان يرون بأن البلاد وهي تحاصرها العديد من التحديات والأشواك والتباينات الفكرية تمثل بيئة ظرفية يصعب فيها حالياً القفز على المراحل، وأن مرحلة البناء وتعميق قيم الانتماء الوطني وإعلاء قيم العمل وغرس قيم الشفافية والعدالة وبسط سيادة القانون وتحقيق حلم النهضة الكبرى في بلد يمتلك الكثير من الموارد يمثل محطة ضرورية لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني ومجامع القيم النبيلة.
أما عن مدى تأثير الخطاب الديني الإسلامي السياسي المعارض للدولة المدنية القادمة بالنظر إلى ما ذكرناه أعلاه فهو قد يجد بعض الاحترام والتعاطف مع البعض لكنه يبقى قطرة ماء لن تؤثر على صخرة الإرادة الشبابية التي تستمد منها الحكومة القادمة قوتها وإلهامها نحو الطريق .
الجبهة الثورية.. تصعيد بلا سلاح
أعلن القيادي بالجبهة الثورية عبد العزيز نور عشر مؤخراً مقاطعته حفل توقيع الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير التي وقعت أمس السبت، وأعلن معارضة الحكومة المرتقبة بكافة الوسائل السلمية.
ووصف عشر في مقابلة مع قناة العربية (الحدث) مساء الجمعة الماضية أن الثورة سرقت من الشعب السوداني، وقال إن الشعب ظل ينتظر هذا اليوم للإجابة على القضايا المهمة، مؤكداً أن الوثيقة الدستورية لم تلبِّ الطموحات والتطلعات وأغفلت الاتفاق الذي تم الاتفاق عليه في أديس أبابا مؤخراً، وأن قضايا السلام والحرب تعد أولوية في المرحلة المقبلة .
لا شك أن جل الحركات المسلحة أدركت بقراءتها للأوضاع السياسية الحالية الذي تمثل فيه قيام حكومة جديدة تمثل نواة لتكوين حلم دولة التغيير لدى الشريحة الأكبر في البلاد وهم الشباب والقطاعات الأخرى، لن يكون من المناسب رفع شعار البندقية مجدداً، فضلاً عن أن المجتمع الدولي لن يقبل بدعم حركات مسلحة تسعى لإجهاض دولة ديمقراطية تلاقي الاصطاف الشعبي الكبير تحقيقاً لمصالحها، ولهذا فإن هذه الحركات لم تتحدث هذه المرة بلسان البندقية وآثرت الحديث عن المعارضة السلمية، وهو خيار متاح لها وللآخرين .
معارضة مبطنة
لا شك أن بقاء حزب المؤتمر الوطني والجماعة الحاكمة بالسلطة في نظام الإنقاذ طوال ثلاثة عقود مضت عبر آلية التمكين الأخطبوطية، كونت فيها العديد من المصالح الذاتية سياسياً ومادياً سيصعب عليها التطبيع مع الأمر الواقع، وبما أن الكثيرين يعلمون هذا وبما يملكه جل رجال النظام السابق من برغماتية انتهازية وميكافيلية تقفز على الثوابت والمرجعيات فإنهم قد يمثلون الخطر الأكبر على قطار الحكومة القادمة، على الأقل نظرياً، لكن تبقى يقظة وحرص الشباب على حماية مسيرة ثورتهم كفيلة بفرملة أي مخططات مهما كان مكرها ولؤمها.