نَارنا ولدت صلاحاً !!
بينما كان التّحليق في العواصف لدى هاشم صديق مَجَازَاً على ذلك النحو الأُسطوري، احترنا فيما تلاه من هُبُوطٍ وفجأةً في السُّكُونِ.. ذلك الفعل الذي تأتيك به شطحات المُتَصَوِّفَة وطَبقَاتُهم فتحسّه وتكاد أن تلمسه دُون أن تدنو من بَرد اليَقين فتلك مَسافة ميتافيزيقية عَصِيّة ومُستحيلة ولو تَقدّمت خطوة واحدة لاحترقت.
فلا تستطيع الادّعاء أنّك تفهم متين تصبح حريق وتعرف متين تبقى المطر.
ما بينهما برزخٌ لا ينبغي أن يبغيانه، وإن حاول تجسيره الشعر والغناء والافتراض والطبقات فعالم الحقيقة والناسوت لا يزدري المنطق ليشعل دُون بيِّنة حركته ويشغلها بـ(حاجة فيهو) لا بتبتدي لا بتنتهي.
الحاجات هُنَا في المشهد السِّياسي السِّيريالي السُّوداني تلتزم اشغالاتها بالهُبُوط فَجأةً في سُكونٍ مُوحشٍ وبعد تَحليق في عواصف اغيارنا ودمائنا هي من تدفع الزمن والثمن.
الحالة الأولى شغلها قرار وزير الخارجية الأمريكي والقاضي بمنع الفريق أول صلاح عبد الله قوش وأُسرته من الدُّخول إلى الولايات المتحدة للاشتباه في تورُّطه بالفساد وانتهاك حُقُوق الإنسان!! ذلك القرار الذي أنهى الجدل الطويل الذي أنقته الخرطوم حول دور الرجل الأمريكي في المرحلة القادمة لنكتشف أن عواصفنا التي كُنّا مُحلِّقين فيها محض تجليات (مجلية)، وطعم التخلي المُر يلحق بالجميع.. أولئك المُوقِّعون على بياض الأوراق ببياض النِّيَّة وتقديم السبت والأحد ثم لا يبقى لهم سِوَى الخشاش ودابة الأرض.. وإلا فَمَا الذي كان يفعله قوش هُنا وهُناك ليرتد هكذا خائباً وحسيراً، وأيِّ ثمنٍ فادحٍ يدفعه بينما يعود بلا رقبة كمطاريد الجبل فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.. وأمريكا لا تقر بأيّما فضل لأيِّ أحدٍ، خَاصّةً أولئك الذين انبطحوا أو سردبوا أو (الرقراق) والضل لا الشموس، فقد تَطَوّعوا (وشالوا وش القباحة)، فلهم في قريب الأيام دُولٌ لا بُدّ ان تنتهي للهبوط في الوجوم .
وجم الناس وهم يقرأون تغريدة بومبينو التي (عصرت) على الرجل خالص مثلما فعلت بالكثيرين.. (وكنت أظنها لن تفرج).
وَعَلَى ما رُشِحَ من (انبهاطٍ) في الداخل السُّوداني ما بين خيبة الأمل وخَطل التّحليل وعسره، بدا لهم المَوقف الأمريكي على تُناسبه غريباً وغير مُتّسقٍ والمجريات، ذلك أنّهم كانوا على عاداتنا السُّودانية في (الصندقة) فعلاً وتفكيراً يُصدِّقون أنّ الثورة المهدية (حقّت) المهدي وأنّ التعايشي خليفته فقط!! ولا يُصدِّقون مشهد شنق ود أب كريق الصادم في السوق، وأنّ الحديد (ما بطاوعك إلا تصرف ليهو بركاوي)، ولن تحلي الانتقالية إلا بعودة سِيدَ الرّصّة والمَنَصّة ومُهندس القصة الذي أدخل (الجموع) إلى ميدان التّغيير وقيد (الجموح) ثُمّ غادر ليُرتِّب أمر علاقاتنا الخارجيّة مع ماما أمريكا وصغيرتها جارة الوادي ريثما (يبخبخ نفسا من البنسون).
ولا أدري ما الذي أنتج كل تلك الكوميديا السّوداء، وكَيف كَانُوا يَستنطقون عُقُولهم وهُــــــم يُحَاوِلُون المَــــــــــزيد من التّغيير في قواعد اللعبة والقوانين، ففيزياء التاريخ وكيمياؤه تقول إنّ دور قوش انتهى فعلاً و(مَرق) اللعب من يده يوم فك (ولد الشيريا) فالنزول ملأ الواطة وإيده اتملت أغطية…. وأصلاً يدو تقيلة وما بيعرف يتونّس.
الونسة التي غَرقنا فيها مَاشّة على احتفالات التوقيع وبداية الفترة شبه (الدافوري) لعبة بلا هَدفٍ ولا جَمهورٍ، الكُل فيها مَأزومٌ بداء الركض والنسيان والهُبُوط بلا ذاكرة في السُّكون ثم البدء مُجَدّدَاً.
جَدّ بقرار الخارجية الأمريكي جرحٌ سودانيٌّ قديمٌ.. وهو التّغاضي عن الأتعاب ثَمناً مُستحقاً لكل تنازُل أو جهدٍ.
الشاطر فعلاً في كل تصاريفنا هو الطرف الآخر من الطاولة والعالم.. فَعلناها في كامب ديفيد ونيفاشا وعاصفة الحزم فلماذا لا نفعلها مُجَدّداً لنتنازل عن ديننا ولُغتنا وحَلايب والفَشقة والمِيناء الجنوبي بلا أدنى مُقابلٍ..؟ فلن ترفع أمريكا العُقُوبات، ولن ترضى الثورية وإن أنفقنا آخر نقطة من سناء جبيننا المهزول.