الأمة قبل الدولة..!
“الهوية بالسلالة للحصان، والهوية بالثقافة للإنسان”.. أحمد بن نعمان..!
(1)
تَأمُّلات الكُتّاب في أحوال المُجتمع هي التي تَصنع مَخارج الأزمات السِّياسيَّة باقتراحها لحُلُولٍ تنتهج الحياد السِّياسي، وعليه فإنّ اشتغال الصحافة بالهَمّ الثقافي والاجتماعي لا ينبغي أن يُعدَّ انصرافاً عن راهن السياسة، بل هو تأمُّلٌ عميقٌ في وجوهها الإنسانية المُتعدِّدة..! فالإقبال على السياسة – بإفراطٍ – والانصراف عن كل ما عداها من هُمُوم وقضايا المُجتمع لا يقدم – كما يَظن البعض وفي بعض الظن إثم – بل يؤخر الحلول السياسية التي يُعبِّد لها استقرار الهوية الثقافية والاجتماعيَّة طريقاً للسلام كما ينبغي له والتنمية كما ينبغي لها..!
(2)
الافتراض النقدي القائل بأنّ “مصطفى سعيد” بطل “وسم الهجرة إلى الشمال” ما هو إلا رمزٌ أراد به الطيب صالح الإشارة إلى الامتزاج والتضاد الإثني والتّناقُض الاجتماعي والسِّياسي في هذا السودان الكبير. الأمر الذي يُعيدنا من حيث ندري أو لا ندري إلى مَعضلة البُعد الثقافي لهذه الأمة. وكأنّ الأدب يُخرج لسانه للسِّياسة قائلاً إنّ “الأنا” السِّياسيَّة لا تنفصل عن النظرة الكلية إلى “الآخر”، وإنّ سداد النظرة الكلية إلى الآخر أمرٌ ينطلق بادئ ذي بدءٍ من هوية اجتماعية وثقافية مُوحّدة.! لقد عاش “مصطفى سعيد” بعضاً يحن إلى بعضه، ورغم البِشر والدفء والخصوبة سار الثائر في طريق الغرق. ولعُمري كيف وكم هي صادقة – بقدر قسوتها – نُبوءات الأدب..!
(3)
في مَعرض حديثه عن خُصُوصية القارة الأفريقية التي تحتم مُعالجات خَاصّة، قال وزير الخارجية الأسبق “هنري كيسنجر” إنّ أزمات القارة الأفريقية هي بمثابة “تحدٍّ” للسياسة الأمريكية في المنطقة، فتنوع أفريقيا يمنع القيام بالمُعالجات السِّياسيَّة المُتّفق والمُتَعَارف عليها دُوليّاً، بَيَنما يَتَطلّب اتّسَاع وتَفَاقُم أزماتها استجابات عاجلة وكبيرة.! وخُصُوصية السُّودان ابن القارة – في تقديري – تظهر بجلاءٍ في إشكالية أنّ هناك فرقاً بين الدولة والأمة، ففي مُعظم دول العالم سبق نُشُوء الدولة وجود مُجتمعٍ وأمة، بينما في مُعظم مناطق أفريقيا ومن بينها السُّودان، ظَهَرَت الدولة قبل أن تُوجد الأمة. أحداثٌ كثيرةٌ جَرَت في بلادنا تدلل على أنّ الوعي بالأمة بمعناها القومي قناعة ومنهج تفكير ينقص الكثير من القبائل والمجموعات الإثنية والدينية التي تساكن بعضها بعضاً تحت مظلةٍ جُغرافيةٍ واحدةٍ، وعليه فـإنّ “خبز” صنع حُلُولها السِّياسيَّة ينبغي أن يعطى “لخبازيها” شعوبها..!
(4)
عَدالة الحكم ليست في ملكيته من جمهوريته، وهي ليست في يمينه أو يساريته، بل في تَقنين “أدوار” و”دورات” مُؤسّسات الحكم.! إن هذا الوطن الكبير كان في حال انسلاخ عن جلد الاستعمار الدولي عندما بلي باستعمار بعض حُكّامه المحليين. وهذا يُشير بوضوحٍ إلى أنّ فصول التّحوُّل التاريخي فيه لم تكتمل ولن تكتمل إلا بحُلُول استقلاله الثاني..!
منى أبو زيد