بداية مرحلة أم نهاية طريق؟
بالتوقيع على الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري اليوم بين شريكي الحكم والبدء في أولى خطوات الفترة الانتقالية، تدخل البلاد مرحلة سياسية جديدة محفوفة بالمخاطر والتحديات، مملوءة بآمال عراض في تحقيق الاستقرار والتنمية والسلام والوفاق الوطني، وتحوّل ديمقراطي حقيقي، وليس سهلاً ما سيحدث بعد هذا اليوم الذي تتقاطر فيه وفودٌ من الإقليم حولنا وممثلو جهات دولية، ليشهدوا هذا التحوّل الذي تشهده بلادنا، وهي ليست على وفاقٍ كامل، ولا على قلب رجل واحد، وهذا من أخطر ما يواجه طرفي الاتفاق من تحدٍّ وصعاب، فلو أحسن الشريكان إدارة هذه الفترة بحكمة وحنكة ودراية وتغليب المصلحة العامة وتجسيد الإرادة السودانية وموروثها السياسي الناصع في التجرّد والنزاهة والعمل من أجل الوطن، يمكن للسودان أن يعبُر هذه المرحلة ويجتاز المفاوِز والوِهاد وصحراء التيه، ويصل إلى بر آمن، وتجتمع كلمته على سواء، ويتفق أهله على مُشتَركات تحفظ لهم أرضهم وترابهم وتقاليدهم وقيمهم وأمانهم .
وليس هناك ما هو أكبر وأجل وأخطر من المسؤولية العظيمة والجسيمة التي ستلقى على عواتق الذين سيتم تكليفهم وإلقاء العبء عليهم لإدارة الفترة الانتقالية سواء كانوا في المجلس السيادي أو الجهاز التنفيذي أو المجلس التشريعي الذي سيتكوّن بعد حين.
وتتطلب هذه المسؤولية الوطنية فهماً أكبر من الأطر الحزبية والسياسية الضيّقة، وتفهّماً أعمق من الشعارات الفضفاضة التي يتزاحم الجميع في طريقها، فالأوطان تُبنى وتمشي معتدلة في الاتجاه الصحيح لو أدرك من بيده القرار أن الوطن أكبر منه ومن اعتقاداته السياسية، وما أخفقت تجاربنا السابقة منذ الاستقلال إلا عندما حصر أهل السياسة والحكم أنفسهم في ذواتهم ومطامع أحزابهم وصراعاتهم وتصيّدهم لبعضهم البعض، فضاعت الآمال العريضة من بين فروج أصابعهم وتلاشى الحلم الوطني وعشنا في الدائرة الجهنمية التي استمرت حتى يومنا هذا .
قد لا ينتبِه كثيرون إلى ما نبتدره اليوم من تحوّل، سيكون وبالاً علينا إن سرنا عكس الطريق وضد إرادة الحياة القائمة على التوافُق والتوجّه نحو البناء والإعمار والتنمية والإصلاح وتصفية النفوس من مشاعر الشحناء والبغض، وستكون خيراً وفيراً إن وضعنا نصب الأعين قيمة وطننا بين الأمم ورمزيته العظيمة في فضائه القاري ومحيطه الثقافي والحضاري، فهو نموذج للتصاهُر والتلاقُح والاندماج والتمازُج ، وموئل للتصافي والتصالُح على مر الحقب والعصور، فهو ليس مثل البلدان التي غرقت في شرورها وأفاعيل شِرارها، فتنكَّبت الطريق بالانحياز إلى الأطر الضيّقة وشح النفس وظلام الأباطيل السياسية التي يتقيّأها الكثير من الناشطين المؤدلجين بلا هدى ولا كتاب منير ..
هذه فرصة تلُوح يجب استثمارها ليعم نفعها المتمثّل في حرية العمل السياسي وحرية التعبير وكفالة الحقوق الإنسانية كلها، فلا تتشوه بالانغماس في ما لا يُفيد وما يوسع فتق الجروح، وذاك طريق سهل من سار فيه لن يحصد إلا الشوك، وسيولّد معه شعوراً في المقابل يُولّد حقداً أكبر وعنفاً أكثر، وذاك ما لا نتمناه لبلدنا أبداً، فالتجربة السياسية التي تبدأ اليوم مثل الوليد الحديث يجب أن يجد رعاية حانية ولُطفاً، فغير ذلك سيُصيبه الاختلال والعطب والمرض ويتأذّى من يومه الأول… ولات حين مندم حينئذٍ .
على شريكي الحُكم أن ينظرا نحو المستقبل لا تحت الأقدام والأرجُل التي لم تزل تغوص في الطين والوحل، لو أدركا ما يعني الأفق الجديد المفتوح أمامهما ومثّلا قيمة السلطة ومعناها الأشمل والأوسع سيهتديان إلى ما يريده أهل السودان جميعاً، وهي حقيقة المعاني الجليلة التي قام عليها التغيير في ثلاثية الحرية والسلام والعدالة، فشعب السودان يعج اليوم بمشاعر مختلطة ومتنافرة، والأجواء مشحونة بعواطف شديدة العتمة نفثت فيها الجهويات والعنصريات والقبليات سمومها، من يقرأ التصريحات ويتابع ما يُلقى على عواهنه في شبكات التواصل الاجتماعي وفي الأحاديث اليومية، يوقن أن حالة الانحدار التي وصلنا إليها لا ينتشلنا منها إلا وعي خلّاق وقدوة حسنة وممارسة رشيدة وأوبة إلى جذورنا وقيمنا السمحة وحكمتنا وتسامحنا الساطع … إما أن نسير في الاتجاه الصحيح، أو نجري خلف الهتافيات البائسة والشعارات الرعناء ونسقط إلى الهوة العميقة ونجد أنفسنا مرة أخرى في مدار الدائرة الجهنمية المعروفة … فهل يُدرك الجميع قيمة ما نمضي إليه …؟ وهل سيكون اليوم فاصلاً بين زمنين..؟!!!!