كتب: سراج الدين مصطفى
(1)
في بداية شهر مارس من العام الماضي.. وفي اليوم الأول منه تحديداً.. كنت قد كتبت تقريراً صحفياً عن الحالة الصحية للأستاذ السر القدور.. وقفت في التقرير على وضعه الصحي وقتها والذي لا يتيح له تسجيل النسخة الجديدة من برنامج أغاني وأغاني كما درج في كل عام.. حيث يبدأ التخطيط باكراً لحلقات البرنامج.. وهو عين ما حدث في العام الماضي.. فهو قام بالتخطيط للعديد من حلقات البرنامج.. ولكن تأثره بمرض زوجته وحالته الصحية لم تسعفاه في تقديم البرنامج كما العادة.
(2)
وتبعاً لوضعه الصحي اختارت قناة النيل الأزرق الأستاذ مصعب الصاوي لتقديم برنامج أغاني وأغاني.. ولعل الجدل الكثيف الذي دار حول مصعب الصاوي ومدى مقدرته على تقديم البرنامج وإنه بذلك وضع نفسه في وضعية المقارنة مع السر قدور والذي يتميز بأسلوب خاص في التقديم البرامجي.. هذا الموقف مع مصعب الصاوي.. وقبله التقرير الإخباري الذي رفعته على صفحتي في الفيس بوك كانت كل تلك التعليقات ترفض حتى حقيقة مرضه.. ولكنها كلها كانت تؤكد على المكانة العالية والسامية التي يحتلها السر في قلوب وأفئدة السودانيين.. واتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الأستاذ السر قدور خلود هذا الرجل في الوجدان الجمعي للشعب السوداني.. وتلك مكانة لا يمكن الوصول لها بالسهل مالم تكن تمتلك مقدرة عالية في تقديم السهل الممتنع في الطرح الإبداعي.
(3)
الحقيقة التي لا يطالها الشك أبداً أن برنامج أغاني وأغاني يظل هو البرنامج الأشهر والأكبر في تاريخ كل القنوات السودانية وهو الأعلى مشاهدة وكذلك هو أكثر البرامج حصداً للرعايات الإعلانية.. وتلك حقائق يجب أن لا نقفذ فوقها ويجب تثبيتها بالضرورة.. وتلك المكانة الرفيعة التي يحتلها البرنامج.. صحيح هي وضعية جماعية يساهم فيها الكثير من الأفراد من حيث الإعداد والترتيب والتنفيذ والتحضير.. ولكن كل ذلك النجاح الباهر يعود للأستاذ السر قدور.. فهو كان يمثل العنصر الرئيس.. والنقطة المحورية.. ولايقل السر قدور شأنا وعبقرية عن أهرامات ثقافية وإبداعية كبيرة ليس في العالم العربي وهو المتمسك بثقافته السودانية وضحكته الساخرة المحببة.
(4)
ولكن غابت الضحكة الرحيبة للمبدع المولود في مدينة الدامر في النصف الأول من الثلاثينات، وانتقل وهو يافع إلى أم درمان التي عاش بها حياة عريضة حتى انتقاله إلى مصر عام 1974م. عاش قدور وتربى في بيئة فنية مادحة وشاعرة، ومنها تشرَّب حبه للفن واستمد الأساس الذي بنى عليه حياته الفنية. ولم يتلق السر قدور دراسة أكاديمية منتظمة، لكنه اعتمد على تعليم الخلوة ثم التثقيف الذاتي الذي خلق منه مثقفا عصامياً فذًا، يناقش ويحلِّل ويفسِّر ويكتب في كل قضايا الفكر والفن والثقافة والسياسة.
(5)
في أم درمان احتك قدور بكل طبقات المجتمع واتجاهاته، عايش السياسيين خاصة الأنصار وقيادات حزب الأمة في دار الأمة والصحف الاستقلالية، خالط الشعراء والفنانين والممثلين وتعامل معهم، دخل في الوسط الرياضي من منطلق حبه للمريخ، وإلى جانب كل ذلك فقد التهم كل ما وقع في يده من كتب الأدب العربي من شعر وقصة ورواية، و كتب في الفن والفلسفة والفكر والسياسة. ومن هنا صار صاحب السبع صنائع.
(6)
كتب الشعر الغنائي وتعرف على أساتذته الكبار العبادي وعمر البنا وسيد عبد العزيز وعبيد عبد الرحمن.. الخ وشكل ثنائيات معروفة بدأها مع الفنان إبراهيم الكاشف في “قول ليهو قول ليهو، طار قلبي بجناح النسايم-المهرجان، الشوق والريد، ياصغير، وأرض الخير”، ومع العاقب محمد الحسن الذي غنى له “يا حبيبي نحن اتلاقينا مرة” و”ظلموني الحبايب و قالوا لي أنسى “ولحن العاقب لمحمد ميرغني “حنيني إليك” ولنجم الدين الفاضل “يا حليلك يا أسمر”.
(7)
غادر السر قدور السودان في بداية السبعينات، وعاش بالشقيقة مصر 26 عاماً كاملة لم يعد خلالها للسودان، حتى عاد للمرة الأولى في معية الصادق المهدي عام 2000، ثم تكررت زياراته وسفراته بين الخرطوم والقاهرة منذ ذلك الوقت. ورغم سنوات الغياب الطويلة فإن من يجالس السر قدور ويستمع لحكاويه وغناويه ومدائحه لا يحس بأنه قد غادر السودان ليوم واحد، فهو مسكون بالسودان وتفاصيل طقسه وتاريخه وفنه وأدبه وأوضاعه السياسية. وظل مكتبه بالقاهرة نقطة تلاقي دائمةمع القادمين من السودان شعراء وفنانين وسياسيين.