منذ ظهوره في بداية ستينيات القرن الماضي وحتى اللحظة .. مازال الموسيقار الكبير محمد الأمين ينتج الأغاني الجديدة .. وحينما أقول جديدة لا أعني أبداً توقيتها الزمني .. ولكني أعني التجديد في قوام وجسد اللحن والابتكار في التراكيب والجمل الموسيقية المتجددة .. لذلك هو رمز للحداثة والنفور من التقليدية .. وسمة التجديد والتطوير والتحديث في الأغاني هي ما جعلته متربعا على القمة دون تنازل أو انحسار مما جعله فنانا جاذبا لكافة الفئات العمرية والتي مازالت تتمسك به كفنان مجدد في الموسيقى وطرائق الأداء .. ولعل شغف محمد الأمين بالتطوير والتجديد هو ما جعله ذات يوم ينفعل بشكل حاد حينما قال جملته الشهيرة (يا تغنوا انتو .. يا أغني أنا) وهذه الجملة تعكس بجلاء ووضوح رغبته في التجديد في الأداء والابتكار والارتجال والانفعالات اللحظية لطرد الملل والنمط العادي والمكرر.
(2)
فهو حينما قال (معاتبته) تلك لجمهوره كان الرجل يعني بذلك أن ترديد الجمهور معه يعني الاحتفاظ بذات القالب اللحني القديم للأغنية وذلك يحرمه الارتجال وتجليات اللحظة الراهنة في المسرح .. ولكن الحادثة وجدت تضخيماً سالباً وتفسيراً خاطئاً لعقلية فنان يحتفظ لنفسه بأسرار خاصة في التفرد .. ولعله يتميز بأنه من أشهر الفنانين الذين لا يخرجون الأغاني الجديدة بسرعة .. فهو مثلاً استلم أغنية (سوف يأتي) في العام 1968 من شاعرها تاج السر كنه ولم يستمع لها الجمهور إلا في العام 1980 وذات الموقف في أغنية (زاد الشجون) التي استلمها من شاعرها فضل الله محمد وهو طالب بكلية قانون جامعة الخرطوم في الستينيات ولم يقدمها إلا في العام 1983 ووقتها أصبح فضل الله محمد نقيباً للصحفيين.
(3)
وكل ذلك يؤشر على أنه فنان يسعى للجودة الشاملة في كل تفاصيل أغنياته .. كما أن يمتلك خاصية لا تتوافر لغيره .. فهي قدرته في المحافظة على (الزمن الوجداني) لأغنياته .. فهو مثلا تغنى بأغنية (همس الشوق) في العام 1983 ولم يكمل باقي تلحين قصيدة هاشم صديق واكتفى وقتها بمقطعين فقط من القصيدة ولكنه بعد أعوام عديدة أكمل باقي القصيدة واستطاع أن يحتفظ بذات (الموتيفة اللحنية) مع المحافظة على القيمة الزمنية لايقاع الأغنية مع براعة عالية في تصوير الجزء المتبقي من القصيدة مما أكسب الأغنية روحا جديدة .. وأيضا في أغنية (خمسة سنين) استخدم ذات التفكير في تلحين متبقي نص الأغنية .. ولعل هذه التكانيك في التفكير الموسيقي المتجدد تحتاج لمقال منفرد للوقوف على كل التفاصيل وتقديم النماذج بشروحاتها والطرائق التي يفكر بها هذا الفنان الأسطوري.
(4)
قناة الشروق .. كانت تجربة ثرة جدا ومحطة مهمة في حياتي المهنية .. لا استطيع بأي حال من الأحوال تجاوزها أو القفز من فوقها .. ولعلي كثير الاسترجاع للعديد من المواقف والأحداث التي صاحبت تلك الفترة الزاهية .. ومكمن الزهو أن قناة الشروق كانت تتسم بنظام إداري صارم وتنتقي طاقمها الفني بطريقة الغربال الناعم والتواجد ضمن توليفتها يتطلب مقدرات خاصة جداً .. وأذكر بأنني كنت الباحث البرامجي الذي تم اختياره للعمل ضمن طاقم برنامج ( سكة وتر) وهو برنامج توثيقي عالي القيمة .. أنتجنا منه أربع حلقات فقط ولكن أي حلقة كانت بمثابة وثيقة تاريخية محكمة لمن استضفناهم وكلها عبارة عن مراجع مهمة جداً نسبة الخطأ المعلوماتي فيها تكاد تكون معدومة.
(5)
وفي تلك الحلقات قمنا بالتوثيق للفنان الكبير شرحبيل أحمد .. توقّفنا في تجربته العظيمة كلها بتمرحل سلس وتسلسل تاريخي منطقي .. كانت حلقات متفردة بتفرد صاحبها .. ولعلي عايشت عن كثب شر حبيل أحمد في تلك الأيام واقتربت منه كثيراً.. وكنت أقوم بخدمته (كأب) وكإنسان في غاية التهذيب والأدب لا تسمع صوته إلا همساً .. ومن ملاحظاتي الشخصية على شر حبيل أحمد فهو لا يشرب (الماء البارد) أبداً ويلجأ (للماء الفاتر) وحينما سألته عن ذلك السر .. قدم لي محاضرة في كيفية المحافظة على (الصوت البشري) .. وعرفت لحظتها كيف أنه استطاع أن يحافظ على صوته بكل هذا الألق والجاذبية حتى وهو يتجاوز الثمانين من العمر.