(1)
عندما حمل الحاج محمد أحمد سرور آلة الرق من مصر إلى حي السيد المكي بأم درمان وإلى نواحي (ود درو) ودوزن إيقاعه مدندناً (هاك اقوالاً مصيبة/كل نفساً توجد نصيبا/ واليصيبا المولى اليصيبا/ بالقدر كم عزَّ الذليل)، بذر ساعتها سرورا في حي السيد المكي (برضي ليك المولى الموالي) قبل سيدة وجمالها فريد والتي خلقوها زي وزينة ملكة الجمال جمال اليونان وقت نظم القصيدة التي كان اسمها (ماتريد)، رأي سيد عبد العزيز ناظم القصيدة بأم خياله رأي الجميلة (ماتريد) فأقام الشبه بينها وسيدة واقام البلاغة حسناً وجمالاً حين ادخلها اسماً مفاده (ماتريد) لسيدة القصيدة (ماتريد السودان) ، ثم ذهب بماتريد ذاتها فعلاً (خلقوها زي ما تريد) لم يقصد معناه القريب. هنا في هذا الحي العريق وفي هذه البيئة من ام درمان في هذا الجو المعافى المترع بالإابداع والبيان وُلد (كمال ابراهيم سليمان) نشأ وترعرع ، وكلما كان يلعب ويلهو في طفولته يافعاً وصبياً لم تك أدوات لهوه سوى أغنيات خالدات لسرور من نظم سيد عبد العزيز والبنا وخطب عصماء كانت هي الاخرى تبدو كقطرة ماء بكر قالت عنها غادة السمان انها (محتبسة في كبد السماء والرفعة) لزعماء كبار منهم الأزهري وعبد الخالق وعبد الله خليل.
(2)
حملها كمال ابراهيم سليمان الشهير بكمال ترباس في ملامحه الوضيئة ظاهراً وفي الحامض النووي لجيناته باطناً ، شفيف وجميل حملها في ميع الصبا (وهناً على رهف) وغناها.. غناها اغنيات باذخة، تهطل ألحانها بَغْثَة ، بل ثَدقُ يخرج سريعاً نحو الوَدْق بل هو مطر ، هو جَوْد حزين وحسناً يحاكي الندى والندوة ونداوة مشاعر التجاني حاج موسى ومن سماوات تظلل الناس تهطل مدراراً في مواسم نبت المشاعر في التربة الخصباء في أم درمان الفن ، وتغنى كورالاً جماعياً يبذل الدعوات للام الرؤوم (يديك لي طول العمر وفي الدنيا يوم ما يألمك) حين تتوسل المشاعر بـ(أمي الله يسلمك) ولا يحجبها عن السماء سوى (آمين) صادقة تصادف عندها ملكاً يحملها في جناحه إلى العرش فتأتي الاستجابة. ولأن للأم ثلاث من (ثم من؟) تتربع كلمات التجاني حاج موسى للأم على عرش أغنيات كمال ، وعندما يخلو عبد العال السيد في الثلث الاخير من ليل الغربة والحزن والمطر ويكتب (والقلب الكبير يا يابا / فيهو براءة الأطفال) ويرسلها في غيهب الليل ذياك إلى كمال ترباس لا يتردد الأخير في ذات الهزيع أن يكمل بها الربع الاخير من (أحق الناس بحُسن صحابته) أبوه.. وفي حالة ممازجة فريدة غني ترباس للام وللأب ثم للمحبين الحُنان يسألوا أيان محكمة قاضي الغرام؟
(3)
عندما كان محمد أحمد سرور يدندن (هاك اقوالاً مصيبة/كل نفساً توجد نصيبا/ واليصيبا المولى اليصيبا/ بالقدر كم عزَّ الذليل) كان يبذر غراس اغنيات كمال تأتي تباعاً : قصة ريد ، عز الجمر ، النيل والقمر ، الشبه باين ، يا ريت ، الماضي ، في جمالك ، أظلم من ظلم ، يا ستهم ، عيني ما تبكي ، عشان بريدك وجنى الباباي.
(4)
غنى كمال الجمال وغنى الطبيعة في أزهى مناظرها، ثم تفرد بطبيعة الدنيا ، حيث تصول طبقات صوته وتجول في اوتار حباله الصوتية علواً وهبوطاً تحاكي الموج في مده وجذره (ما تهتموا للايام/ طبيعة الدنيا زي الموج تجيب وتودي/. ما تهتموا للايام ظروف بتعدي) وصوت كمال ترباس (يجيب ويودي) وموج طبيعة الدنيا يعلو ويهبط يجيد وصفه الشاعر عوض جبريل ويجعل منه اغنية تسير بذكرها الركبان ثم يختارها كمال وجمهوره عروسة بين الأغنيات.
(5)
(انت المهم) لا تشبه الا ثنائية عبد العال السيد وكمال ترباس ، ولا يستطيع سواه كمال ان ينقل احساس عبد العال كما هو عند أنت المهم والناس جميع ما تهمني (إنت المهم جاييك شعاع / نجمه وشراع / نسيني يا عمري الضياع /انا لسه تايه دلّني /قول ليا قول يا احلى زول /خلي الحزن يرحل يزول / لو كنت جد بتعزّني)، ويظل الحزن يسكن عبد. العال ويغنى كمال ذلك الحزن شعاعا ، نجمة وشراع يمضي بنا نعبر بحرا متلاطما تغشاه الاشجان والاحزان ولا يقدر على مداواتها أو مداراتها الا كمال بـ(إنت المهم).
(6)
جغرافيا السودان تمددت كيميائها في جميع أغانيه الا انه تجلى في (وليد دارفور) وبكلمات أنيقة وبسيطة المعاني تنفذ إلى القلب مباشرة تغنى ترباس لوليد دارفور (ﺑﻲ ﺣﻘﻮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﺟﻴﺮ/ ﻳﺎﻳﻤﺔ ﺧﻴﺮﻭ ﻛﺘﻴﺮ/ ﺍﺏ ﺳﻨﻮﻧﺎ ﺟﻴﺮ ﺗﻘﻮﻝ ﺍﺧﺘﻔﻮ ﻭﺍﻃﻴﺮ).
(7)
في مهرجان عيون ترباس تربعن ثلاث اغنيات اولهن (عيني ما تبكي) ، فلم يكتف بالتوسل للعين الا تبكي كمال!! بل تفنن في ميم كلمة ما وجعلها يغنيها اللهاث ، متلاحقة الأنفاس (مممم) قبل ان يغني (أصبح حشاي محروق/ والدمعة في خدي/ ليلها ونهارها تسيل/ شايلاها اشجاني) هكذا نظم حامد الدوش عيني ما تبكي وكما عرفناها غناها كمال ترباس. والاغنية الثانية في مهرجان عيون اغنيات ترباس نظمت درر كلماتها آمنة خيري وبدأتها بـ(عيوني ما قلتي من الريدة تُبتي/ شنو الوداك تاني وجابك لي تبكي) الى ان تقول (قدر ما أوصي فيك وأزيدك في الوصية/ أوعي كفاي عذاب وما تزيدي العليا/ تجيني حزينة باكية وشايلة معاك أسية/ ايه أعمل معاك يا عيني إنتي؟) ومرة اخرى تبرز مقدرات كمال في التطريب العالي وإثارة الاشجان أو قل اسكات الاحزان . والاغنية الثالثة في مهرجان العيون هي عيوني وعيونك ………..
(8)
وصية كمال ان لا تهتموا للأيام، أن تعيشوا ابداً في فرح الخواطر الطيبة وفي الآمال.. في شروق الصباح في بسمة الاطفال . وطبيعي في دنيانا نلاقي الفرح والخوف فقط لا تهتموا للأيام.