16 فبراير 2023م
مضت بنا تلك العربة الفارهة ذات الدفع الرباعي وهي تشق مسيرها نحو الصحراء القاحلة حيث لا مياه ولا حياة إلا بعض المشاهد الكالحة الأحجار المتراكمة والحلال المبعثرة والأشجار الباكية التي ترجو الماء من الخريف للخريف.. طفنا عددا من ولايات السودان الغربية.. حيث انطلقت في تلك الأثناء قوافل الدراسات والعمل من الخرطوم الى كل ولايات السودان مستعينة بالإرادة الصادقة وتوجيه الإدارة العليا، لأجل إنسان السودان الذي وضعت الخطة على أن تتواجد مصادر المياه في 500 متر على الأقل من أي مجموعة سكانية، مُتّخذين من قاعدة معلومات الأطلس المائي التي تم إعدادها بعد جهودٍ مضنية ساهم خلالها الخُبراء والمُختصون بعلمهم الوافر عبر الاجتماعات والورش والسمنارات وعُقدت المؤتمرات للوصول لهذا النموذج العلمي الممتاز الذي يُعد مرجعاً لتنفيذ مشروعات المياه في كل البلاد فخرج أطلس المياه.. وهو مسح معلوماتي جغرافي لكل البلاد رصداً لمصادر مياه الشرب (محطات نهرية، سدود، حفائر وآبار) تم من خلاله التعرف على مناطق الفقر المائي والمصادر المتاحة وخواص مياه الشرب بالولايات وتحديد مدى كفايتها لاستهلاك الإنسان والحيوان، حيث تم التخطيط لها وفق معايير سليمة لاستخدام أمثل.. ومستدام.. يعين الناس في أوقات الجفاف والجفاف المُمتد.
مضت رحلتنا المحفوفة بالمخاطر بعزم لا يلين ورغبة صادقة في الإنجاز.. فنحن الوحيدون في تلك الفترة الذين كنا نعلم أهمية المياه للإنسان والحيوان، بعد أن وقفنا على مشاهد اختلطت فيها مشاعر الفرح بالحزن.. وحدنا الذين كنا ندرك حين تتفجّر الماء من بين الصخور ويأتي أهل المكان يعانقوك فرحاً وبُشرى.. أناس لا تعرفهم إلا أنهم سودانيون ولكنك تعرف أهمية الماء بالنسبة لهم.. حين تأتيك أم الأيتام وتقسم عليك أن تحمل الشاة الواحدة لديها هدية لأهل الخرطوم.. حين يأتيك من يسوق مراحاً من الأنعام ويعمل فيها ذبحاً ولا يتوقف لأجل مكافأتكم بهذا الإنجاز العظيم.. حين يستظل الجميع بالماء المتدفق من جوف الأرض بكامل هندامهم ويتصايحون فرحاً.. كل هذه المَشَاهِد وغيرها جعلتنا ندرك أهمية سقيا الماء.. وقد كان الجميع بقدر التحدي والمسؤولية.
على بُعد (20) كيلو متراً تقريباً أو يزيد شرق مدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور، كان العمل قد أنجز في سد بليل الأرضي الذي انجزته عبقرية الإنسان حين كانت الخبرة الهندسية والإخلاص في العمل حاضرين بحضور عبقرية التصميم وجدارة التنفيذ، والذي كان كفيلاً بطي صفحة العطش إلى غير رجعة في المنطقة بأكملها.
في مايو من العام 2014م، جددت وحدة تنفيذ السدود، العزم على إعلان صفرية العطش بكل ولايات السودان، حيث كانت ولاية جنوب دارفور بداية انطلاق العمل، مستهدفة تنفيذ عدد كبير من الآبار والحفائر. ولعل المشروع الأبرز الذي اكتسب أهميته ضِمن هذه المشروعات هو سد “بليل الأرضي” الذي أسهم في توفير مصدر دائم لمياه الشرب لمدينة نيالا، والتي تعتبر ثاني أكبر مدينة في السودان من حيث تعداد السكان بعد العاصمة الخرطوم.. حيث تم تنفيذ هذا المشروع داخل “وادي نيالا الزاخر بالمياه في فصل الخريف”، في الوقت الذي ظلّت تعاني فيه المدينة من انحسار كبير للمياه الجوفية خلال فترة الصيف، مما ألقى بتحديات جمّة على حكومة الولاية ممثلة في هيئة مياه الشرب بالولاية في تغطية أحياء المدينة المنتشرة رأسياً وأفقياً على مد البصر.
أسهم “بليل” الذي أجرت دراسته ونفّذته الشركات الهندسية وبتمويل من وحدة تنفيذ السدود في العام 2014م، أسهم في تغذية الآبار الجوفية، حيث يعمل على تخزين (5) ملايين متر مكعب من المياه، مما دفع حكومة ولاية جنوب دارفور إلى إنشاء (10) آبار حول منطقة السد بإنتاجية كلية تقدر ما بين (7 إلى 10 آلاف متر مكعب في اليوم)، حيث لعبت هذه المصادر دوراً مهماً في تخفيف الضغط على مصادر المياه الأخرى بالمدينة.. وجعلت إنسان المنطقة يشعر بالأمن والطمأنينة التي كانت غائبة قبل هذا المشروع الذي قدّم من خلاله المهندسون السودانيون أفضل ما عندهم في مثل هذه المشروعات.. كانت أولى إشراقات مشروع حصاد المياه الذي استهدف كافة محليات الولاية، حيث تم تنفيذ (19) حفيراً تتراوح سعاتها التخزينية ما بين 50 ألف متر مكعب إلى 210، فضلاً عن تأهيل سد أم دافوق الذي شكّل إضافة كبيرة في محور الأمن الغذائي من خلال الإنتاج الزراعي والاستزراع السمكي، وامتد العزم بتنفيذ 14 بئراً في إطار إنفاذ برنامج صفرية العطش كما جاء بعد ذلك سد رمالية وسد الكداد بمحلية كتيلة والذي شكّل بدوره إضافة كبيرة في توفير مياه الشرب وتحسين معاش الناس، وإحداث الاستقرار المنشود.
بدأت بعد ذلك حياة جديدة عبر النشاط الزراعي على ضفتي السد بعد أن هجر أصحاب المزارع مزارعهم بسبب انحسار المياه في وقت من الأوقات، فأخرجت الأرض خيراتها من الخُضر والفاكهة واجتمع الإنسان حولها، والتي أسهمت في تغذية كافة أسواق حاضرة الولاية، مما زاد من حجم النشاط الاقتصادي بفضل استيعاب كثير من الأيدي العاملة على صعيد المزارع والأسواق.
يظل التحدي قائماً في أهمية استمرار مشروعات حصاد المياه التي أثبتت جدواها في محاربة العطش، وأحدثت قدراً من الاستقرار وتعزيز السلام الآمن والأمان والطمأنينة العامة.. فلا تزال عبقرية وحدة تنفيذ السدود التابعة لوزارة الري والموارد المائية حاضرة وما زالت الفكرة نضرة يدعمها أهل السودان جميعًا لأجل محاربة العطش.
نواصل..
دُمتم بخير،،