صلاح الدين عووضة يكتب : ورقد شعره!
16فبراير 2023
وكان ناعماً..
ولكن ما كان يهمنا من شعره هذا أنه يدلنا على حالته المزاجية… والنفسية..
فهو ما كان يضحك… ولا يبتسم… ولا يكشر أيضاً..
ومن ثم فما كنا نعلم إن كان مبسوطاً… أم مكتئباً… أم لا مبالياً..
وحدها حركة شعره الناعم هذا هي التي تخبرنا بحركة انفعالاته الداخلية..
علماً بأن شعره هذا يبدأ من بعد منتصف رأسه بقليل..
أو ينتهي عنده؛ فمن العسير معرفة اتجاه نمو شعره… هل هي إلى الأمام أم الخلف؟..
ولكن حركة اتجاه شعره هذا نعرف منها حركة أعصابه..
فإن كانت مقدمته ترقد على مقدمة رأسه باطمئنان فهو سعيدٌ إذن..
أما إن كانت تتجه إلى الخلف – وكأن شعره يواجه ريحاً عاتية – فهو مبتئس..
وأكثر يومٍ تتجلى فيه هذه الحركة هو يوم الخميس..
فهو اليوم الذي يسافر فيه إلى إقليم الجزيرة؛ حيث زوجاته مبعثرات هناك..
أو إلى حيث سيبني على زوجة جديدة..
فرغم أنه شمالي الهوى… والمولد… والثقافة… إلا أن هواه الغرامي يتجه جنوباً..
فهو نوبي؛ بعضهم يظنه حلفاوياً… والبعض الآخر دنقلاوياً..
غير أنه لا يجهد نفسه بتوضيح حقيقة إلى أي الكيانين النوبيين هذين ينتمي..
فهذا شيء لا يهم؛ وتحديداً لا يهم الناس..
كل الذي يهمه أن يخرج من عند الصراف – نهار كل خميس – بما يُسعده..
ونرصد نحن حركته هذه..
فإن خرج من عنده وحركة شعره تتجه نحو الوراء فقد خرج بخفي حنين..
فهو – إذن – في غاية الغضب..
ونعرف ذلك من حركة شعره؛ أما إن كانت نحو الأمام فهو في قمة السعادة..
فسوف يذهب إلى إحدى زوجاته بالجزيرة..
أو – إن كان ما خرج به من عند الصراف كبيراً – فسيذهب إلى السوق العربي..
ويشتري من هناك بعض الأقمشة… والعطور… والأحذية..
ثم يطير بها إلى الجزيرة ليضيف إلى زوجاته – كما الحاج متولي – عروساً جديدة..
إنه زميلنا – ملك المنوعات – محي الدين خليل..
ومن غرائبه – كذلك – أنه كان يخرج من الجريدة بغرض تجميع مادته الصحفية..
ثم لا يلبث أن يعود سريعاً بحصيلة وافرة..
وكأنه التقى – مصادفة – بمطربين… وممثلين… وروائيين… خلف مبنى الصحيفة..
وما كان يحب أن يتكلم كثيراً..
ولكنه إن فعل فغالب كلامه يكون بمثابة حكم… أو قراءة… أو نبوءة..
وذات صباحٍ كنا نناقش همومنا الصحفية..
فقال لي: الواحد منا لن يرتاح إلا إذا خرج من الصحافة ليرقد في مقابر الصحافة..
ولا أدري لماذا مقابر الصحافة بالذات..
أو ربما كان يقصد مقابر شهداء مهنة الصحافة… مهنة المتاعب… مهنة التضحيات..
وما كان له بيتٌ خاص في الخرطوم..
فكل صحيفةٍ يلتحق بها هي مكان عيشه… ورزقه… وسكنه..
وفي يومٍ شعر بوعكة مفاجئة؛ وكانت جراء مضاعفات مرض السكري..
فسُئل إلى أين يُحمل؛ فأجاب: اتحاد الصحافيين..
فأُخذ إلى هناك… ومن هناك أُخذ إلى مشفى… ومن هناك أُخذت روحه إلى السماء..
ثم أُخذ إلى مقابر الصحافة؛ وهناك رقد..
ورقد شعره!.