(1)
في مسار الأغنية السودانية الطويل، هنالك شعراء خلدهم الوجدان الجمعي (بأغنية واحدة).. ولم يكونوا من أصحاب الإنتاج الثر والغزير، وربما بعضهم لم يجد حَظّه من الشهرة ولكن (الأغنية الواحدة) التي قدمها جعلته حاضراً حتى وإن غابت سيرته ومسيرته وتفاصيل حياته الشخصية، والنماذج كثيرة وتكاد لا تُحصى أو تُعد، ولكني أحاول في هذه المساحة التوقف عند بعضهم، مما أتاح البحث المُضني أن أعثر على بعض تفاصيل حياتهم، وهي تفاصيل ربما تبدو خافية وتحتاج لمجهود إضافي وتحقق كامل من أي معلومة.
(2)
أغنية (كنوز محبة) التي لحنها الموسيقار الراحل بشير عباس وتغنى بها الراحل زيدان إبراهيم، هي واحدة من الأغاني المحفورة في وجدان الشعب السوداني، فهي توافرت فيها كل عناصر الجودة والخلود من مفردات ذات عذوبة ولحن سهل وتلقائي ويمتاز بالسلاسة والبراعة في تصوير الكلمة موسيقيًّا، ثم الأداء المبهر لزيدان إبراهيم ـ كعادته دوماً ـ الأغنية بمواصفاتها تلك خلدت اسم الشاعر الدكتور (بشير عبد الماجد) ورغم أنه قدم أغنية أخرى اسمها (خوف) وتغنى بها الفنان الطيب مدثر.
(3)
العلاقة الإبداعية ما بين الفنان صلاح مصطفى والشاعر عبد الله النجيب هي علاقة قديمة ومتجذرة أنتجت العديد من الأغاني التي شكّلت حضوراً كبيراً وكان لها أثرها وتأثيرها.. وعن لقاء النجيب بالفنان صلاح مصطفى يحكي لنا عبد الله النجيب قائلاً إنه كتب أغنية ونشرها في مجلة الإذاعة فقام بتلحينها الفنان صلاح مصطفى وقدمها للفنان عبيد الطيب وسمعتها عبر الإذاعة وهذه القصيدة التي جعلتني شاعراً معروفاً وكان صلاح يعمل في الفترة المسائية وأنا أعمل بالفترة الصباحية وسأل عني إلى أن تعارفنا ببعضنا وصرنا أصدقاءً.
وكما معروف دخل الفنان صلاح مصطفى إلى الوسط الفني كملحن وبعد فترة من الزمن أقنعه عبد الله النجيب بأن يتغنى بالأغنيات التي يضع لها الالحان وقدم له ثمانية اعمال غنائية منها صدقت العيون.. يا عيوني كفاك.. وبعد أن تغنى لي بمجموعة من الأغنيات طلبت منه أن يسعى وراء بعض الشعراء ليتغنى لهم مثل الشاعر الراحل مصطفى سند والعلاقة بين صلاح مصطفى وعبد الله النجيب لم تكن علاقة بين شاعر مجيد وفنان صاحب صوت طروب وكان ومازال الغالب على علاقتهما الصداقة والإخوة الحقّة.
(4)
إبداعات الدوش صدحت بها مجموعة من الفنانين السودانيين حيث تغنى له الفنان حمد الريح بأغنية (الساقية) و(سعاد) للكابلي التي يقال ان الدوش كتبها في زوجته سعاد وهنالك رواية أخرى أن الدوش كتبها قبل أن يلتقي بها بفترة طويلة, وسحابات الهموم لمصطفى سيد أحمد, وتغنى له الموسيقار محمد وردي (بناديها, والود والحزن القديم). من المعروف أن أغنية بناديها من الأغاني الرمزية التي كانت سائدة في عهد نميري وعندما طلب من الفنان محمد وردي أن يفك شفرتها ردّ قائلاً “لو قمت بفك الشفرة تصبح غير رمزية، لكن أقول إن زمنها كان لا بد من الرمز في هجمات الرئيس السابق جعفر محمد نميري ضد القوى التقدمية كلها بينما جاء باسمهم إلى السلطة، ولجأ الشعراء المتمكنون آنذاك للشعر الرمزي”.
(5)
والدوش حتى في تجاربه ما بعد الود مثل (الحزن القديم)، (بناديها)، (بفتش عن وطن)، (الساقية).. كلها أغنيات تؤكد محاولات الدوش المُستمرة في التكريس لشكل كتابي فيه قدر كبير من الاختلاف عن السائد.. وتكنيكه في الكتابة والاستفادة من تخصصه الدراسي في الدراما جعل القصيدة عنده عبارة عن مخطوطة فكرية مُحتشدة بالصورة والأخيلة والحبكة والسبكة والرواية التي تبدأ بالعقدة وتنتهي بشكل مفتوح من الأسئلة.