قبل سنوات، كان السيد أنجلو بيدا أحد القيادات من جنوب السودان قبل الانفصال، وكان نائباً لرئيس البرلمان، يتحدث عن الخطر الذي يُهدِّد الجنوب في حال تحوُّله إلى دولة، وذكر الكثير من التحدّيات والصعوبات التي تعترض بناء دولة من الصفر، وأشار إلى القضية الاجتماعية، مُذكِّراً أن الجنوب ليس كالشمال الذي يمتلك مقوِّمات ومُمسكات تعصمه من قواصِم الدهر، فهنا ــ ويقصد الشمال ــ يوجد (كِبار) يجلّهم الناس ويحترمونهم ويُوقِّرُونَهم، وهم عظمُ الظهرِ للتماسُك الاجتماعي والقومي، كرجال الطرق الصوفية وقيادات القبائل ورموز المجتمع من مفكّرين ومثقفين وأدباء وفنانين وشعراء وتجّار وأعيان، كما تُوجَد رواسِخ في الحياة السودانية كالأحزاب الكبيرة ورموزها، والجامعات العتيقة والفِرَق الرياضية العريقة والأندية، بينما جنوب السودان سيَتلمَّس طريقه لإيجاد المُشتركات التي يُؤسَّس عليها الوجدان القومي الجنوبي الذي فقط توحَّد من أجل حقوقه وفك ارتباطه مع الشمال.. وتلك قضية تحتاج إلى عقود طويلة حتى تَتَمَتَّن وتقوَى هذه المُمسكات مع الزمن وتتجاوَز العصبيات القِبَليّة المناطِقية واللسانية في دولة الجنوب.
تَذكّرنا حديث أنجلو بيدا، ونحن ننظُر إلى ما حَدَث للمجتمع السوداني من اختلال كبير، وانْسَحقَتْ القِيَم الاجتماعية وانفرط التماسًك الدّاخلي إلى أدنى الدرجات حتى باتت المُجاهَرة بالانتماء للعُنصر والعِرق والجهة والمكان واللون هي الأبرز في ساحتِنا العامة اليوم، ولا تكاد ترى في المُمارسة اليومية وفي طبيعة الحياة الراهنة الأخلاق والأعراف التي نشأ عليها المجتمع وسار في كنفها، فقيمة الاحترام للذات والتاريخ والتراث والرمز وكل ما كان في الوجدان السوداني الصميم تكاد تتلاشى، ولم تعُد الأجيالُ الصاعدة تحفل بـ(الكبار) كما قال أنجلو بيدا في أي مجالٍ من المجالات، غاب هؤلاء الكبار عن حياتنا رويداً رويداً، ولم تتواصَل الأجيالُ وترتبِط بما يصِل بهم، وقلَّ الاحترامُ للتاريخ المشرِق المضيء ولرموزه، بل انعدمت حتى المعرفة بالرموز الوطنية وكأن تاريخنا القريب كان ومضة أضاءت حياتنا برهة ثم اختفت..!
كل ما كان يُمثِّل ركيزةً وعموداً من أعمدة التماسُك القومي يتهاوَى من حولِنا، وجُلّ ما كان يربُطنا ويُوحِّد بيننا ويقوِّي من آصرة التواصُل يتبدّد كألوية الدخان، إلا بضعة أحاديث مملوءة بالشجن تجري على ألسنة بعض الأجيال التي عاشت تحت ظِلال تلك الأيام السالفات، لكن الأجيال النَّاهِضة والصَّاعِدة التي تتسيَّد المشهدَ الراهن، تأثرت بمؤثرات داخلية وخارجية وافدات ضاغطة ، ضاع منها ذاك الكنز الفريد الذي نمتلكه، فلا نجد احتراماً لكبير ولا تقديراً لقيمة اجتماعية وثقافية كانت حصناً وحصاناً لمجتمعنا من السقوط في مستنقع الشقاق، وانحسر بذلك البهاء الذي ظلّت تُمثّله الطُّرُق الصوفية التي حافظَت على تربيتنا وأخلاقنا وروحنا الشفيفة، وتراجعت الإدارة الأهلية التي وطّدتْ ترابُطنا وصانت كياناتِنا ورعتْ الحِكمة السودانية وتقاليد المجتمع، ولم يعُد هناك من يحفل أو يهتم برموزنا وتجلِّيات حياتنا الثقافية والفنية والأدبية الراقية التي قام عليها الوجدان السليم وتوحّد في رحابها وتجمّر كما الذهب في نارها، وتنوع بتعدُّديّته في مساراتها الدافقة.
ما بات مقلقاً ومخيفاً، هذه الحالة الراهنة التي نعيشها، أزيحت الفواصل والحواجز والموانع التي كانت تحفظنا من الانحدار نحو الهاوية، فنحن مجتمع حافَظ على نفسه بقيمه النابِعة من هويته الحضارية ودينه وأخلاقه الأصيلة، وصاغ تقاليده من تراث عريق ضارب بجذوره في عُمق التجربة الإنسانية الزاهية، وهو يتلقّى تياراتها المُتنوّعة عبر الحِقب والعصور، حتى صار على ما هو عليه وما عُرف به، وكان قوته الناعمة التي أثّر بها على محيطه القارّي في أفريقيا والفضاء العربي العريض، هي قيمه وأخلافه وفنونه وآدابه وقوة جذبه العالية الكامِنة في الشخصية السودانية الآسرة..
نخشى أن تأخذُنا العاصفةُ الهوجاء والغفْلةُ الرعناء ونحن نجري ونلهث وراء ضمور السياسة الشوهاء فلا نجد بين أيدينا (كِباراً) ولا رموزاً ولا أركاناً نلجأ إليها ونلوذ، فنضيع كمن ضاعوا، ونتراجع كمن تراجعوا، وننتكِس على الأعقاب خاسرين.. وتلك محنة كُبرى…