لم يَكن (عباس ود التّاية) مُبصراً لِمَا آلت إليه الأُمور داخل أُسرته الصّغيرة بعد أن قرّر ليجلب إلى بيته الفسيح زوجة أخرى.. حتى إنّه فعلها دُون إجراء أيِّ تحوُّطات استباقية أو مُستقبلية.. فكّر في ليلة ثم قَرّرَ واختار صباحاً والعقد كان الجمعة التي تَلَت.
مَا بين الفِكرة والقَرار والدُّخول، تَرتيباتٌ إجرائيةٌ خَالِصَةٌ.. فَارَت الدنيا مِن حَول ود التّاية واندلقت، لكن كل ذلك لم يَدنُ من شِرَاك نعل عباس.. سَهر السوق والبيت والحلة جراها واختصموا، لكنهم عند قدمي عباس اجتذبوا المباركة والابتسام والدعم السريع.
حتى المرأة التي اختارها لم يترك لها فَرَقَة.. ولم (يلفلف) كثيراً ولم يدع لها فرصة لـ(اللفلفة) أو مُبرّراً (للزوغان).. نَادَاهَا إلى دكانه القديم فَجَاءت (وفاء) عَلَى عَجلٍ بلا حَوَاشٍ بمَظَنّة أنّ المَوضوع مُتَعَلِّقٌ بقضية ابن أخيها (هاشم) الممسوك في بلاغ تَهريب السُّكّر إلى الجنوب والتي كَانَ قَد تَولاّها عباس بعنايته وأحرز فيها نجاحاتٍ بَاهرةً.. لم يكن هاشم وقضيته إلا سَبباً في (شُوفتها) وقراره.
حينما كَانت عَائدةً إلى البيت لاحظت (البشتنة) التي هي عليها، وأعجبها أنّه طَلَبَهَا للزّواج وهي على تلك الهيئة والحَال.. وأعجبها أكثر كونه (بشتنها) داخلياً إلى هذا الحَد وحَشرها نَفسيّاً في ترتيبات الزواج دُون المُرُور حتى بالاستخارة.. واجتازت كل (متاريس) المُمانعة و(كدى النفكِّر).. أحسّت مثلما رَغِبَ كيف أنّه عَظيمٌ وكَبيرٌ.. وعباس وبرغم فطنةٍ ظاهرةٍ وذكاءٍ فطري مُتّقٍد لا يلقي بالاً لتلك التّفاصيل البَعيدة ولا يَصغى إلا لما فيه الكسب والربح.. هكذا قد علّمته التجارة فاختار أن يصعد مالاً ومكانةً وبنينا.
شَهدت معه أم أولاده (سعاد) كل ذلك المجد على غِيرةٍ غير مُبرّرة ونِقّةٍ لم تكن في حاجة إليها.. ينجح (عباس) فيمتلئ جِيدَها بالذهب، وديوانها بالعفش، ولسانها بفضلها المزعوم عليه.. ومع وُرود الخير ومَصنع مصنعين، كانت الدنيا تتّسع وقلب سعاد يضيق والأولاد يكبرون.
أكبر أولاده كَانَ في معية أمّه.. مُلتزماً بأهوائها و(جدعات) خاله القريب من أعمال عباس التجارية منذ أن بدأت في الانتعاش قابعاً مُتربِّصاً.. بفكرة مركزية قوامها أنّ هذا النزاع المَكتوم والضّاج في آنٍ، هُو فِي صَالح صُعُود نجم الخَال وقفزه إلى مقاليد الخزائن والأعمال وَتَقَاسُم الغلة وكيفما شَاء.. فعمد وباتفاقٍ غير مكتوبٍ مع سُعاد على الاحتفاظ بتلك المَسَافة البرجماتية بينه وعباس مُستعداً شغوفاً لأوان تلك السانحة المباركة، والتي باعدها قليلاً زواجه الصاعقة.. تَقَبّلَ الخال وتنظيمه السِّري، الأمر على مَضَضٍ، مغلباً فكرة أنّها لا تعدو أن تَكُون (نَزوة) وتذهب، أو (كبّة) سُتَعجِّل من فُرصهما في الصُّعود لكنهم وجميعاً، لم يجرؤ واحد منهم من الاقتراب أو التّصوير.
لم يترك عباس فُرصةً لأحدٍ ليُساهم في منع أو تَسريع أو حتّى ترتيب أمر زَواجه.. طَرَحَ (مصفوفته) ووزّع رقاع الدعوة.. قال عن (سعاد) كلام الخير والإيمان.. وتغافل عن (خمخمتها) الصغار والعَفش وذهابها إلى (أم دقرسي)، لكنه لم يَنسَ أن يطمئن على أمرها والمصاريف.
وعندما كان وحيداً في البيت ولأوّل مَـــــرّةٍ، أحسّ براحةٍ غريبةٍ، واتّسعت الدنيا مَرّةً أُخرى أمامه، وبدا تماماً أن (كراع عروسه خدرة) فصلى الاستخارة ونام.
الآن نحن على أبواب مستشفى الدايات بانتظار قرار مولود عباس ووفاء بالخُروج!!.