حمام الوادي.. حلم العودة إلى تراب الوطن ولعيون حبيبة!!
يرويها- سراج الدين مصطفى
أغنية محفورة:
ثمة أغنيات ما زالت محفورة في الدواخل تلامس ذلك العصب وتنحت في الخلايا فتصبح شلواً حميماً لا ينفصل أو ينفك.. وإسحق الحلنقي شاعرٌ يعرف كيف يتغلغل في الأغوار العميقة والسحيقة، لأنّ مفردته بسيطة وخالية من الاستعلاء.. ومن يتعمّق في كل أشعار الحلنقي يجدها تنضح بالحُب وتتدفّق بالعذوبة وتتشابك وكأنها غابة من الأيادي العاشقة تتماسك في براءةٍ.. لذلك ظلّ الحلنقي هو ذاك الشاعر الجميل الذي يتناثر عبيره طيلة الأزمان والأيام.. فكل أغنية عنده لها طعم ولون مغاير لا يشبه الآخرين.. وذلك الجمال الدافق من أغنيات الحلنقي جعله في يوم ما يقول لمدير الإذاعة الذي هدّده (والله توقف غناي إلا تقلب الإذاعة كلها نشرة أخبار).. وكان الحلنقي يعني ما يقول لأنّ أغلب مكتبة الإذاعة الغنائية كتبها بدمه ودموعه.
حمام الوادي:
أغنية حمام الوادي هي واحدة من إدهاشات الحلنقي الشعرية، فهي أغنية ذات وقعٍ خاصٍ وتحتشد بالدموع وحلم الرجوع لأرض تحمل ذرات ترابها الذكريات ومراتع الصبا وحكايات الحُب الأول.. ولأنّ ما بين سطورها تسكن الكثير من التفاصيل الأنيقة وتنام على مسح أصابعها تنهدات الألم والترحال ومرارة الغربة.. ومَن يعيشون بعيداً عن جغرافيا الوطن وحدهم يعلمون مَدَى تأثيرها وقُدرتها للدعوة للبكاء.. فهي أيضاً تنسج المناديل وتصبح في لحظة ما هي التذكرة وحلم العودة لتراب الوطن ولعيون حبيبها يحنون إليها.. وأغنية حمام الوادي ليست أغنية عادية بكل حسابات الغناء.. فهي ذات مفردة مُعبِّرة ولحن موسيقي فيه الكثير من العبقرية وأداء كان خيالياً من الفنان القامة حمد الريح، وعن قصة هذه الأغنية سألت إسحق الحلنقي فقال: حينما صدر قرار نقلي من وزارة التربية والتعليم إلى مدينة كسلا، أخذت معها ابنيّ التوأم مهند ومجاهد وتركت معي بقية الأطفال.. وذهبت هي هناك إلى مدينة كسلا تعيش بين خضرتها وظلالها وجبالها وأنا هنا في أم درمان أعيش وحيداً محروماً منها ومن أطفالي، حيث أصبحت الدنيا باهتة وبلا طعم وبلا ظل أو غيمة استظل بحنانها من هجير استعارها.
رحلة في الباقير:
ويسترسل إسحق الحلنقي مُستعيداً كل التفاصيل ويقول: في ذات يوم ذهبت وبعض الأصدقاء في رحلة ترفيهية لمنطقة الباقير.. وبينما أنا هناك وجدت (حمام الوادي) يتحرّك في خفة ورشاقة ويطير بحرية ومتعة.. فتمنيت ساعتها أن أكون مثله أطير وأطلق بلا قيود.. دون أن أشعر أمسكت بالقلم والورقة وانسابت الكلمات:
حمام الوادي يا راحل / مع النسمة الفرايحية..
مع الياسمين عز الليل / تواصل رابية منسية..
صغارك مشتهين ترجع / تضم العش بحنية..
تسيبهم مش حرام للريح / وعارف القاسو ما شوية..
قرار وزاري:
ويتداعى شاعرنا الجميل الحلنقي ويقول: بعد ذلك ذهبت قرأت القصيدة للمرحوم عمر الحاج موسى وكان وقتها وزيراً لوزارة الثقافة والإعلام.. فتألم كثيراً بسبب بعدي عن زوجتي وأطفالي، فأصدر قراراً وزارياً بعودة زوجتي.. وهكذا جمع بيننا المرحوم عمر الحاج موسى بعد طول فارق وعذاب وألم.
مع التاج مكي:
وفي يومٍ ماطرٍ، كنت أجالس الأخ الفنان التاج مصطفى وكان بصحبته الملحن ناجي القدسي.. وقرأت للتاج مكي القصيدة فطلب ناجي القدسي أن يقوم بتلحينها ووعدني بأنه سيصنع لها لحناً يجعلها أغنية خالدة لا تبارح الوجدان.. وفي نفس تلك اللحظة اخذ ناجي العود وراح يدندن بالقصيدة ثم اكمل تلحينها بعد ذلك في العام 1971م. وابدع حمد الريح في التغني بها وأضفى عليها شكلاً جميلاً بديعاً لأنه تحسس الأغنية جيداً وما تحتويه من شجن وألم.
تأثير على المغتربين:
أغنية حمام الوادي لعبت دوراً كبيراً وكانت لها تأثيراتها على المغتربين وذلك لأنها لامست أوجاعهم ورغبتهم للعودة والحنين.. وهذا شرفٌ كبيرٌ أن أكتب قصيدة نصح تكون سفيرا بين المغتربين.. وهناك الكثيرون الذين قابلتهم وقالوا: أغنية حمام الوادي كانت سبباً في عودتهم لديارهم وأطفالهم.